عبد الحليم حافظ يسطر بصوته حكاية مصر
إنه صاحب الصوت الذهبي الأصيل.. الشاب المصري في أبهى رومانسيته وأرقى مشاعره، هادئ الصوت في غير ضعف.. وقوي النبرات في غير ضجيج.. قلما سمعه ذوو الذوق الرفيع إلا وتأثروا به يشدو عندليبًا في بستان الأغاني.. يتألق بين أفنان أيكة، يصول ويجول في الحياة.. يشم عبق زهور تجاربها فيشدوها كلمات طالما سكنت آذان سامعيها لتستقر في وجدانهم قبل ذاكرتهم.
عبد الحليم حافظ.. اسم يعني الطرب ووجه ترجم واقع المصريين بكل ما فيه.. فهو يستمع إلى قارئة الفنجان استطلاعًا لما ستنتهي به الحياة.. ويدعو الله معترفًا: «أنا من تراب والإرادة هي سرك فيه.. تنوره بحكمتك وبرحمتك تهديه»، وكل هدفه في الحياة أن يلهمه ربه «حب الخير.. حب الجمال والحق».
العندليب كان أيضًا الشاب عاشق الحياة باعتبارها «ضحك ولعب وجد وحب»، داعيًا الجميع إلى أن يعيش أيامه ولياليه و«يخلي شبابه يفرح بيه» في لحظات تمرد على الهم والألم وتجاوز المعاناة، مهما كانت الظروف المقيدة لحرية الإنسان وحقه في أن يحيا سعيدا بلا منغصات، استغلالا للحظات ربما تأتي قليلا أو مرات عابرة في عمر ربما يكون أقل.
وهو أيضًا ذلك الوفي المحافظ على عهد الحب في التعامل مع الحبيب في «على حسب وداد قلبي يابوي راح أقول الزين سلامات».. وما زال ينتظر الحبيب كمصدر للفرحة تكون فيها رداءً له ليعلنها صريحة «حانغزل توب الفرحة يابوي وحاقول يا حبيبي سلامات».
ومع لوعة الحب ما زال العندليب بعد طول معاناة معه في حوار صريح ومواجهة رآها حتمية مع القلب الذي رآه ليس ملكًا له بل إنما هو قلب حبيبته قائلا: «وإلى الآن لم يزل نابضًا فيك حبها.. لست قلبي إنما أنت قلبها»، وربما كانت التساؤلات مشروعة إلى ذلك القلب المغرد بعيدًا عن سرب صاحبه: «أو تدري بما جرى أو تدري دمي جرى أخذت يقظتي ولم تعطني هدأة الكرى».
العندليب هو ذلك الطالب السعيد بنجاحه شاديًا: «وحياة قلبي وأفراحه وهناه في مساه وصباحه ده مفيش فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه»، بل يطلب متزعمًا حالة السعادة من باقي زملائه الناجحين رفع أياديهم فترتفع الأصوات هتافًا: «هيه».
وبعد نكسة 5 يونيو 1967 التقى الخال عبد الرحمن الأبنودي، جلسا، بكيا طويلا، لكن الثأر من الهزيمة نبههما إلى قدرات المصري، المقاتل بطبعه، فسرح الخال للحظات، وقال:
عدى النهار..
والمغربية جاية تتخبى ورا ضل الشجر..
وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر..
وبلدنا ع السكة بتغسل شعرها..
جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
ياهل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين
أبو الغناوي المجروحين
يقدر ينسيها الصباح أبو شمس بترش الحنين
ابدا... بلدنا للنهار... بتحب موال النهار
لما يعدي في الدروب
ويغني قدّام كل دار
والليل يلّف ورا السواقي زي ما يلف الزمان
وعلى النغم.. تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان
تحلم ببكرة واللى ح يجيبه معاه
تنده عليه في الظلمة وبتسمع نداه
تصحى له من قبل الأدان
تروح تقابله في الغيطان
في المتاجر في المصانع
في المدارس والساحات
طالعة صحبة صفوف جنود
طالعة له رجال أطفال بنات
كل الدروب واخدة بلدنا للنهار
واحنا بلدنا للنهار بتحب موال النهار
لما يعدي في الدروب
ويغني قدام كل دار
فيتلقى العندليب كلمات الخال بقلب يفور بالمشاعر، وسرعان ما طلب الفنان الجميل بليغ حمدي، فقرأ الكلمات، واحتضن عوده، وفي خلال دقائق كان اللحن ينساب من بين أوتار عوده، لينطلق في الإذاعة، ويؤجج مشاعر الوطنية الخالصة، وتبدأ الاستعدادات الحقيقية لخوض معارك الاستنزاف التي قسمت ظهر الكيان الصهيوني، لتبدأ انتصارات أكتوبر المجيدة.
وفي النصر أيضًا يتربع العندليب في قلوب المصريين وجنود الجيش المصري بعد ملحمة أكتوبر العظيمة، فيردد شعار النصر هاتفًا: «بسم الله.. الله أكبر بسم الله بسم الله.. نحيي جهادنا بسم الله بسم الله» ومع فرحة النصر يظل الدعاء ملازما للعندليب فيدعو: «الله أكبر.. أذن وكبر والنصرة تكبر ونقول يا رب النصرة تكبر».
حتى أرض الفيروز، الجزء الغالي من جسد الوطن، لم تغب عن صوت العندليب وقلبه، فحلق ملقيا عليها السلام: صباح الخير يا سينا» لأنه بالنسبة له العائدة لحضن مصر الدافئ، فيخاطبها مغردا: «تعالي في حضننا الدافي ضمينا وبوسينا يا سينا» ويداعبها: «ورسيت مراسينا على رملة شط سينا».
في مثل هذا اليوم 30 مارس عام 1977 رحل العندليب عبد الحليم حافظ جسدًا وبقى صوته شاديا في قلوب عاشقيه، بعدما قدم نموذجا يحتذى لمطرب منَّ الله عليه بصوت فريد، فحافظ عليه ليهب موهبته لجمهور طالما آمن بالفن رسالة سامية ودواء ناجعا للأرواح المحبة للحياة.