انتبهوا أيها السادة!
لأننا نعاني حقا من بنية تحتية مشوهة وهشة لا تحقق الحد الأدنى من المواصفات القياسية، في أي مجال سواء كان في التعليم أو الصحة أو الصناعة أو الزراعة أو البحث العلمي أو النقل أو الاستثمار أو غيرهم الكثير والكثير، أصبح التفكير في البنية التحتية هو نقطة البداية في دائرة مغلقة بدايتها هي نهايتها!
والشاهد أن المشاهدة دون تأمل والرصد دون تحليل كان سبب وراء تكرار السعي في دائرة البنية التحتية المغلقة، من يشاهد منا أفلام الأبيض وأسود المصرية القديمة يري فيها طرق جميلة، وإشارات مرور تعمل، وقطارات نظيفة، وأتوبيسات ومحطات أتوبيس راقية، وترام حضاري، وصالونات ركاب أنيقة مثل التي نراها في أوروبا، ومصالح حكومية لها شكل موحد ومنظم، وتراث لا يمكن أن تراه سوي في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا مثل مبني ماسبيرو، ومحطة مصر، ودار القضاء العالي، والمباني التاريخية في وسط البلد والكوربة وميدان التحرير وكوبري قصر النيل وجروبي وغيرهم الكثير من متاحفنا وآثارنا، وتراثنا التاريخي العظيم.
ومع تكرار استخدام هذه الأماكن وهذه المشاهد في الأفلام القديمة لسنوات طويلة كانت تظهر في كل فيلم بنفس الشكل الأنيق الذي يعكس صيانة مستمرة واعية، وبعقد مقارنة سريعة بين حال هذا الميراث اليوم من تشويه حدث له مقارنة بما كان عليه، نستطيع أن نستخلص السبب في تشويه هذا الميراث "البنية التحتية"، إنها البنية الفوقية الهشة صاحبة اليد العليا في تشويه أعظم بنية تحتية، فإذا افتقرنا إلى بنية فوقية متميزة أصبح لا داعي من ضياع المال والوقت والجهد في بنية تحتية جديدة ستتحطم على يد هؤلاء!
والمتعمق في مفهوم البنية الفوقية يعلم أن الفيلسوف السياسي الإيطالي "انطونيو غرامشي" هو أول من أطلق هذا المصطلح في بدايات القرن الماضي منذ أكثر من مائة عام واصفا طبقة المثقفين الذين لديهم الوعي الحقيقي بمفهوم البنية الفوقية وقيمتها، والذي ينتج كتل تاريخية في المجتمع تدوم وتستمر عبر الزمان، وللأسف إذا أصبح أشخاص من خارج هذه الطبقة يجلسون على رأس مائدة صناعة القرار، تجدهم دائما يسيرون في دائرة البنية التحتية ولا عجب أن تجد الكثير منهم لايعلم الفرق بين البنيتين، ولذلك فكرة بناء القوى الفوقية استحوذ على فلسفة "غرامشي"!
ويا ليت من جاء من خارج هذه الطبقة ذهب ليؤسس لبنية تحتية بأمانة ولكنهم ذهبوا يصنعون مجدا زائلا لأنفسهم، لا يهتمون فيه سوي باللقطة، فنجد في محافظة مثل الإسكندرية مناطق أقل ما يمكن وصفها به أنها خارج منظومة الحياة، وإذا اخترقت الغلاف الخارجي المبهر لمنطقة المهندسين والدقي وغرب الزمالك ومصر الجديدة ومدينة نصر وحدود الكورنيش بالإسكندرية ستري عالما آخر، وفِي هذا السياق حدث ولا حرج، وقري وطننا الكثيرة جدا تتحدث عن نفسها!
إن صناعة القوى البشرية الفاعلة بكل حراكاتها بما تمتلكه من خبرات وثقافة وتكوينات وتجارب وأفكار وخطط وإبداعات ومنتجات في كل ميادين الحياة وحقولها هي صناعة البنية الفوقية التي كانت وما زالت تتنافس عليها الدول المتقدمة، حَيْث تعمل على جذب المتميزين في العالم واستقطابهم وتدريبهم وتوفير كل الإمكانيات لهم، على عكس مجتمعاتنا في معظم بلادنا طاردة للعقول والمتميزين أو ما يطلق عليهم القوى الفوقية، وأظن أن دبي خير مثال على صناعة البنية الفوقية القوية، حيث أصبحت ملاذا ماديا واجتماعيا أمنا للقوي الفوقية من كل العالم على خطي الولايات المتحدة التي تكاد أن تشعر فيها بأنك تعيش في العالم، فحولك صفوة العقول من كل أنحاء العالم!
ومن يتابع التقارير السنوية الصادرة عن المؤسسات الإحصائية العالمية الخاصة بالتنمية البشرية في بلادنا، سيقف مشدوها، فالأمية طاغية والإنتاج ضعيف والاستهلاك متزايد والدخل متدن، ومن يدقق في سلوكيات من يطلق عليهم أو يطلقون على أنفسهم النخب يجد أن النفاق يزداد، والتبعية أصبحت سمة لازمة لهم، والأنكى أن كثيرا منهم لا يدركون!
إن البنية التحتية الألمانية كانت قد تحطمت تماما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن ألمانيا عادت إلى ما هي عليه الآن بعد عشر سنوات فقط، ذلك لأن المجتمع الألماني كان يمتلك بنية فوقية قوية جدا هي التي طورته بسرعة، لذلك انتبهوا أيها السادة، أعلم أن البنية التحتية لدينا مهلهلة ولكن الأولوية الآن لإنتاج بنية فوقية قوية، لأنها حتما ستصنع بنية تحتية أفضل والأهم أنها ستحافظ عليها!