رئيس التحرير
عصام كامل

عباس العقاد يكتب: عبقرية الجندي المصري

عباس العقاد
عباس العقاد

في مجلة الإذاعة عام 1948 كتب الأديب عباس محمود العقاد مقالا، جاء فيه:


سنحت للجندي المصري بعض الفرص لإظهار كفاءته العسكرية في الحرب العالمية الثانية.. فاعترف له البعيد والقريب بالمقدرة على الخصوص في إصابة المرمى وتعقب الطائرات وتوجيه الأنوار الكاشفة وحراسة النقط المنعزلة التي تحتاج يقظة.

وقد ظهر لنا أن المصري لديه استعدادات فطرية للجندية العصرية على الخصوص، لأن القتال في العصر الحديث هو قتال ماكينات وآلات، وليس أطيع من المصري على استخدام الماكينات والآلات، ويخرج إلى ميدان لم يعهده من قبل.. فيه الوعر والسهل، فيه السرداب والكمين، فيه المعقل المغلق والساحة المفتوحة، فكأنه يعمل في ميدان كان يغدو فيه ويروح كل صباح ومساء.

تلك ملكة مصرية عريقة لا تجدها في كثير من الأمم التي عرفت الجندية والتجنيد منذ مئات السنين.

فلا جرم إن كان المصري جنديا عصريا من الطراز الأول، لأن هذه الملكة علم كامن فيه بغير علم.

من الأوهام الشائعة أن ملكات الحرب مناقضة لملكات الحضارة، وأن الهمجي أصلح للحرب من الأمم التي طال عهدها بالمدنية.. وذلك وهم لا أساس له من الواقع ولا من التفكير الصحيح.

وغاية ما هنالك أن بواعث القتال تختلف بين الجندي من الهمج والجندي من أمم الحضارة، فالهمجي يندفع إلى القتال بغريزة شبيهة بغريزة حيوان، ويستأثر بحب الغنيمة أو بحب الحركة، والحضري يندفع إلى القتال إيمانا بعقيدة وقياما بفريضة قومية.

والأمة المصرية من أعرق الأمم التي عرفت حياة الحضارة، وعرفت حياة الأسرة، وخير الجيوش جيش يتأصل إحساس الأسرة في كل جندي من جنوده، وكل قائد من قادته.

إن التعاون بين أعضائه يجري فيه مجرى السليقة الموروثة، ويساعدها النظام على هذا التعاون فتأتي المعجزات.

وهذه خاصية عرف بها المصريون من جماعاتهم العسكرية، فليس بين كبيرهم وصغيرهم في عزلة الميدان إلا ما يكون بين الكبير والصغير في الأسرة الواحدة من عطف متبادل ورعاية صادقة كنجدة القريب للقريب، لأن موقف الخطر أبعد على النجدة من موقف الأمان.

وهذه الخاصية يمتاز بها الجندي المصري في معاملة الأعداء فلم يعرف أنه يتطوع للأذى أو النقمة.

هذا هو الجندي المصري العصري.. أعطه عقيدة يناضل من أجلها، وأعطه قيادة أبوية يطمئن إليها، وأرسله حيث تشاء فلن ترى منه إلا ما يشرف أعظم الأمم وأعرق الجيوش.

وقد أعطى القيادة الأبوية، وأعطى العقيدة التي يؤمن بها من أعماق وجدانه، ولم يكن عمل الأعداء في تمكين هذه العقيدة أقل من عمل الأصدقاء.

هكذا يتقدم المصري إلى ميدانه عزيزا بماضية، مستعدا بنشأته، مطمئنا إلى قيادته، عامر الصدر بعقيدته.
الجريدة الرسمية