السيدة «نفيسة» كريمة الدارين
إلى كريمة الدارين خالدة الذكر سليلة سادتي أهل بيت النبوة إلى سيدة أهل العلم والتصريف العابدة الزاهدة التقية النقية، إلى من أنار الله تعالى بها مصر وحفظ ببركتها المصريين إلى نفيسة الأنوار والعلوم والمعارف والأسرار، أكتب مقالي هذا إعرابًا عما يكنه قلبي لك من حب ووفاء واعترافًا بكريم فضلكم وعظيم كرمكم، فقد شرفت بخدمة أعتابكم الشريفة والجلوس على كرسي تربية المريدين والطلاب والأحباب على مدى أكثر من إثنى وأربعين سنة، وقد أكرمني الله تعالى بما يفوق الخيال ظاهر وباطن ببركة سركم الساري وأنواركم الفياضة وبركاتكم التي منحكم الله إياها وخصكم بها والمشار إليها بقوله تعالى: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد".
وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا بكم سادتي آل البيت في الآخرة، كما جمعنا بفضله علينا عليكم في الدنيا، وأودع محبتكم في القلب، وليسمح لي عزيزي القارئ أن أبدًا مقالي بتعريف سيدتنا السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها، هي الطاهرة الكريمة ابنة الإمام سيدي حسن الأنور بن الإمام زيد الأبلج بن الإمام الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحدى ريحانتاه، ولدت رضي الله عنها يوم الأربعاء ١١ من شهر ربيع الأول عام ١٤٥ هجرية بمكة المكرمة، نشأت سيدتنا الكريمة وتربت في أحب بقاع الأرض إلى الله تعالى وهي المدينة المنورة، دار الهجرة ومسكن الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحيث مرقد الطاهر الشريف..
تربت على العبادة والذكر وفضائل الأخلاق، حفظت آيات كتاب الله تعالى وهي في حداثة سنها، وتلقت علوم الشريعة على يد أبيها، وكانت كثيرًا ما تتردد على مسجد جدها عليه الصلاة والسلام وتسمع دروس الإمام مالك إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، ولم يتجاوز عمرها الثانية عشرة إلا وكانت عالمة بأحكام دينها فقيهة في سنة جدها المصطفى صلى الله عليه وسلم..
أحبت رضي الله عنها الخلوة فلزمتها زمنًا طويلًا مشتغلة فيها بالتعبد، الصوم والصلاة وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل سرى في قلبها الطاهر أنوار كلام الله سبحانه، فأحبت القرآن وعشقته، حتى أنها كان لها ختمة له ثلاث مرات كل يوم..
هذا والقرآن كان بالنسبة للسيدة نفيسة كالهواء والماء لا حياة بدونهما ولا غنى لها عنه، وعقب ذلك فتح الله تعالى على قلبها الطاهر بأنوار العلوم والمعارف والحكمة ووهبها سبحانه من مخزون علمه عز وجل اللدني والمكنون، ذلك العلم الذي يفيض الله تعالى به على أهل الاصطفاء والاجتباء من عباده، والمشار إليه بقوله عز وجل في حق العبد الصالح سيدنا الخضر عليه السلام: "وعلمناه من لدنا علمًا".
ومعلوم أن أهل البيت أكرم على الله وأحب من الخضر عليه السلام وغيره من البشر والخلق، فنطق لسانها الكريم بالحكمة وغرائب العلوم حتى أبهرت أئمة الأئمة وشهدوا لحضرتها بالسيادة في العلم والنفاسة وأطلقوا عليها "نفيسة العلم"، وقد كان لها مجلس يحضره الإمامان الجليلان الإمام الشافعي والإمام الليث ابن سعد رضي الله عنهما، وكانا يجلسان بيد يديها الشريفة جلوس طالب العلم بين يدي أستاذه ومعلمة، وقد أوثر عنها أن الإمام الشافعي جاءها يومًا بصحبة الإمام الليثي وكانت عنده أسئلة في نفسه وعنده أجوبة لها، ولكنه أراد أن يراجعها مع السيدة نفيسة، فلما دخلا عليها بادرت بالقول من قبل أن يسأل بقولها:
يا شافعي لا تسألني عما تعلم فما عندك من أجوبة صحيحة واسألني عما لا تعلم حتى أعلمك ما لا تعلم، فقام الإمامان بتقبيل يدها الشريفة، وقال الشافعي: والله هذا من نور النبوة الذي أورثكم الله تعالى إياه يا سادتي يا آل البيت يا معدن العلم والنور والمعرفة والأسرار..
هذا والسيدة "نفيسة" بركة لمصر وأهلها كما أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد ورد أن السيدة نفيسة رضي الله عنها لما توفاها الله ونقل روحها الطاهرة إلى جواره تعالى أقبل زوجها وابن عمها سيدي إسحاق المؤتمن من المدينة المنورة كي يأخذ الجسد الطاهر ليكون مرقدها في البقيع بالمدينة بجوار جدها المصطفى صلى الله عليه وسلم وآل البيت، الذين شرف البقيع بضم أجسادهم الطاهرة، فحزن أهل مصر واجتمعوا أمام بيتها وجمعوا أموالا طايلة وأرادوا أن يعطونها لسيدنا إسحاق ليترك لهم السيدة نفيسة، والحلوا عليه، وهم حزانى ثكالى، ولكنه رفض وأصر أن يأخذ الجسد الطاهر في صباح اليوم التالي إلى المدينة المنورة..
وفي هذه الليلة يرى سيدنا إسحاق جده الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يأمره بقوله: "يا إسحاق دع نفيسة لأهل مصر فإن لهم فيها خير وبركة"، فلما أصبح سيدي إسحاق خرج إلى جموع المصريين الذين لم يغادروا المكان وزف إليهم البشرى بشرى رؤياه وأمر جده له بترك الجسد الطاهر لأهل مصر، وأن يكون مرقدها بأرض الكنانة فتحول الحزن إلى فرح، والبكاء والعويل إلى زغاريد وبهجة وسعادة..
هذا والحديث عن سيدتنا السيدة "نفيسة" رضي الله عنها يطول ويطول ونحن على موعد بمقالات أخرى عن حبيبة قلوب المصريين مسلمين ومسيحيين، فهي بركة لكل أهل مصر رضي الله عن سيدتنا ونفعنا الله تعالى بها وبأهل البيت في مصر وسائر الأقطار.