رئيس التحرير
عصام كامل

الإذاعة المصرية.. دفتر ذكريات الوطن الصوتي

الشيخ محمد رفعت
الشيخ محمد رفعت

للإذاعة سحر خاص، فبها نرى العالم بآذاننا، ولا فرق عندها بين كفيفٍ ومُبصر، فمع مطلع القرن العشرين كان الراديو هو الاختراع الأكثر ثوريةً على الإطلاق، فبه فتحت الأبواب على مصراعيها أمام التليفزيون والإنترنت وكل وسائل الاتصال، إذ إنه كان حدثًا، جلل، ومنذ أن اخترع ماركوني الراديو، وأرسل عام 1901 أول موجات عبر المحيط الأطلنطي، وبعدها وتحديدًا عام 1909 نال جائزة نوبل في الفيزياء عن اختراعه الراديو، ما لبث أن تحول هذا الاختراع إلى أداةٍ جماهيرية في العالم كله.


ودخلت الإذاعة مصر في وقتٍ مبكر، إذ تزامن دخول الراديو لمصر مع بداية انتشاره في أوروبا، وكانت مصر آنذاك تحت الاحتلال الإنجليزي، وكانت إذاعة "مصر الجديدة" هي أولى الإذاعات الأهلية، وما إن انقضى عامان  حتي افتتحت إذاعة "سابو"، وهي محطة أوروبية، وفي عام 1932 افتتحت "محطة راديو الأمير فاروق"، وفى الإسكندرية تم افتتاح إذاعتين، كانت أشهرهما محطة راديو فيولا.

ولما كانت الإذاعات الأهلية بلا رقابة، انتشرت فيها الأغاني الخليعة والإباحية، وكان من أشهر المغنيات اللاتي اشتهرن بهذه الأغاني آنذاك، منيرة المهدية ونعيمة المصرية وبهية المحلاوية، وحبيبة مسيكة، ورتيبة أحمد وغيرهن الكثيرات، اللاتي تغنين بأغاني تمتلئ بالإباحية الصريحة.

واستمرت هذه الأغاني في البث عبر أثير الإذاعات الأهلية، إلى أن افتتحت الإذاعة الرسمية، حيث توقفت الإذاعات الأهلية عن الإرسال في‏29‏ مايو‏ 1934‏ لتترك مكانها للمحطة الحكومية الرسمية التي بدأت في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم‏ 31‏ مايو لعام ‏1934‏.‏

ومع افتتاح الإذاعة الرسمية، وتقلّد محمد يونس القاضي منصب رقيب المصنفات الفنية في عام 1943، قام القاضي بحملةٍ شرسة ضد هذه الأغاني، والتي كانت معظمها من تأليفه هو شخصيًا، ولكنه قضى عليها، لتبدأ مرحلة أخرى من الإذاعة، كانت بمثابة المغناطيس الذي جذب إليه كل المواهب من كل الفئات ليسجلوا بصوتهم تاريخ مصر.

ومن ذكريات الإذاعة أيضا، موقف الشيخ محمد رفعت، ذلك الصوت الشجي الذي كان من مشاهير عصره –وما زال إلى الآن من مشاهير قراء القرآن- فقد رفض رفعت أن يقرأ القرآن في الإذاعة، معللًا رفضه بأنها حرام، حيث رأى في ذلك الوقت أنها من علامات الساعة، فكيف لهذا الصندوق الحديدي أن يتحدث وينقل الأصوات لكل مكان، ولكنه ما لبث أن غير رأيه بعد ذلك، بعدما أفتاه شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية بأن الإذاعة حلال ولا حرج فيها.

ومن موقف رفعت في الإذاعة إلى إذاعة صوت العرب، تلك الإذاعة التي جمعت حولها العرب كافة، فلم تقتصر على المصريين وحدهم، بل امتدت لخارج الحدود لتعبرها ممتدةً لكل الدول العربية من الخليج إلى المحيط، فكانت خير جامعٍ للشعب العربي، فعندما أمم الرئيس جمال عبدالناصر قناة السويس، في يوليو 1956، وقامت فرنسا وإنجلترا والكيان الإسرائيلي بالعدوان الثلاثي على مصر، وضرب العدوان أجهزة الإرسال الإذاعية بأبي زعبل، لتصمت إذاعة صوت العرب بعد أن كانت تبث أخبار المعركة.

وبعد صمت وترقب لكلمة عبد الناصر يُفاجئ المستمعون بصوت ينطلق قائلا «هُنا القاهرة من دمشق»، وكان هذا صوت هو صوت الإذاعي السوري عبد الهادي البكّار، لتتحوّل الإذاعة السورية إلى مصرية خلال فترة العدوان الثلاثي، وشهدت الإذاعة أيضا كل المواقف الحرجة للوطن، فعرف من خلالها الشعب المصري أخبار حرب أكتوبر، وكل الأخبار، ورغم انتشار التليفزيون فإن الإذاعة لم تفقد رونقها بل ازدادت المحطات الإذاعية وتنوعت وتخصصت.

وحتى مع ظهور الإنترنت لم يموت الراديو، بل انتشرت محطات إذاعية كثيرة من خلال الإنترنت وتنوعت محتوياتها ليبقى الصوت الإذاعي ما بقى الإنسان، وفي هذا اليوم 13 فبراير يحتفل العالم كله بالإذاعة في يومها العالمي، والذي كان لمصر الأسبقية في دخول الإذاعة فيها قبل الكثير من الدول، لتذخر ذاكرة الراديو بدفتر حكايات الوطن الذي يؤرخ لمصر منذ أن انبعث الصوت الأول للراديو بها.
الجريدة الرسمية