رئيس التحرير
عصام كامل

يوميات كائن ليلى


من زمن ليس ببعيد كنت أعشق الليل، أعشق سحره وغموضه وصمته وهدوءه ففى الليل يصبح للحياة مذاق آخر، أشياء كثيرة نفعلها فى الليل بعيدا عن صخب جنون النهار.


ما زلت أذكر ليالى الصيف على ضفاف النيل عندما كنت أسير مستنشقة تلك النسمة الرطبة الصافية وأجلس على مقعد حديدى ليس أمامى ما يعكر صفو النهر فلا مراكب نيلية ولا كافيهات ولا مطاعم خمس نجوم ولا حتى نواد نهرية تصد مجال رؤية الماء وهو ينساب سلسا هادئا وتتألق على صفحته أضواء المدينة التى لا تنام، ويمر إلى جوارى بائع السميط وهو ينادى بصوت رخيم "سميط وبيض وجبنة"، أشترى منه عشائى لأتناوله وسط هذا السكون الرائع.

لم أكن أخاف تواجدى فى الشارع حتى فى ساعة متأخرة وحتى لو كنت وحدى فالمارة الذين يعبرون الطريق إلى جوارى يحتضنوننى باهتمامهم وخوفهم على، لم أكن أسمع كلمة نابية أو ألمح شبح محاولة تحرش ولا نظرة لوم وعتاب لأننى امرأة تجلس وحدها ليلا، لم يقل أحد يوما إننى أستاهل ما يجرى لى لأنى لم ألزم بيتى فى الليل أو لأنى أرتدى ملابس لا تناسب المرأة التى تخرج للشارع وكنا فى تلك الأيام الجميلة نرتدى ما يحلو لنا.

لكل هذه الأسباب أحببت ساعات الليل وتحولت بمرور الوقت إلى كائن ليلى يحلو له أن يخلو بنفسه ولو ساعة كل يوم ليحلم ويتأمل ويستمتع بهمس السكون المنتشر من حوله ثم قامت فى مصر ثورة تفاعل معها الجميع.

18 يوما كاملة بدأت بعدها فى التحول إلى منحنيات بعيدة تماما عما قامت من أجله واقتحمت مصر تيارات كثيرة أضاعت منها أحلامها، سرقت أمنها وأمانها فجاء من ينتهكون حرمة ليلها واصطدمت بمن ينظرون نحوى بنظرات تحاول اختراقى من الداخل، يتهموننى بأننى السبب فى دعوتهم للانحراف، يمدون أياديهم نحوى بعنف، يستبيحون جسدى لمجرد أنى امرأة تسير فى الشارع وكأننى أصبحت ملكية عامة متاحة للجميع، يتركوننى ليتجهوا على بعد أمتار قليلة منى وينقضون على شخص آخر يقود سيارته مسالما، يقفون أمامه كالوحوش ويرشقون سموم أسلحتهم البيضاء قريبا من وجهه فيترك لهم سيارته بما فيها مستسلما ليشترى حياته.


فى الشارع المقابل أطفال يقفون على أعتاب الشباب يتبادلون الألفاظ النابية والضحكات الخليعة فيما بينهم ثم يصعدون على دراجة بخارية ليس لها أرقام وينطلقون بها غير عابئين بما أمامهم يروعون المارة إما بتعليقاتهم البذيئة أو بخطف حقائبهم وموبايلاتهم أو بالاستيلاء على نقودهم.

وارتفعت حدة أصوات الأبناء أمام آبائهم وأمهاتهم فى المنازل وأمام أساتذتهم فى المدارس والجامعات يصرخون "إحنا فى ثورة، كل حاجة اتغيرت"، نعم كل شىء قد تغير لكن إلى الأسوأ، تاهت المبادئ والقيم التى تربينا عليها بين الهرج والمرج، لم يعد هناك معايير أو مقاييس لأى شىء.

ولكن أكثر ما أحزننى فى كل هذه المتغيرات أننى لم أعد أستطيع أن أكون كائنا ليليا فالليل أصبح مخيفا والظلام لم يعد ضوء الأمان يبدده، مع الأسف أصبحت كائنا نهاريا يردد ما كان أجدادنا يقولونه إن "النهار له عينين" وأضيف إلى قولهم إن له عينين وقلب لا يخاف وأوصال لا ترتجف أمام جريمة تقع كل يوم، وليست الثورة هى السبب فعندما يغيب الثواب والعقاب وعندما يختفى القانون ولا يجد المخطئ من يحاسبه يصبح قانون الغابة هو السائد وصدق الله العظيم فى قوله "ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب". 
الجريدة الرسمية