رئيس التحرير
عصام كامل

6 سنوات من فقد الأحبة.. كيف أحيا أهالي شهداء «ألتراس أهلاوي» ذكرى مذبحة بورسعيد؟

فيتو

في التاسعة من صباح اليوم استيقظ الحاج مصطفى على نغمات "المنبه"، التي انتظرها عاما كاملا، لتذكره أن صباح الأول من فبراير قد تجلى تماما، وحان وقت الزيارة المعتادة، "أنا هنا من الساعة 10 الصبح، جاي لأكثر مكان عاش ومات ليه".. يتحدث متكأ على عكازه الخشبي الذي استعاض به عن ابن كان هو آخر ما تبقى من عدد لا يحصى من أطفال كانوا يموتون في سن مبكرة، كأنهم يفسحون المجال لـ"محمد" فيأتي إلى الدنيا، ينمو بين أحضان والده، ثم تلتقطه من بين يديه لتلقيه من فوق مدرج ستاد "بور سعيد".


أمام البوابة الرئيسية للنادي الأهلي أو بوابة "الشهداء"، كانوا على موعد مع ذكرى جديدة، قوات الأمن تناثرت في محيط ساحة "الملائكة"، وجوههم مازالت تبتسم، كأن الزمن عاد عشر سنوات إلى الوراء، تنظر إليهم تجدهم يبتسمون، "أنا عارف إنهم حاسين بوجودنا حواليهم، وصورهم اللي بتزين مدخل البوابة دي مش مجرد جماد لا يتحرك، دي روح بتحلق في المكان باستمرار"، بهذه العبارات يتحدث محمود الشاب العشريني الذي حضر إلى بوابة الشهداء في تمام الثانية عشرة والنصف، بعد محادثة قصيرة مع أفراد الأمن الذين رفضوا دخوله هو وأصدقاؤه الذين حضروا للسبب ذاته، "الأمن قال مفيش تجمع، إحنا مكناش جايين علشان نعمل مشكلات، كان كل همنا نقرأ لهم الفاتحة عند النصب التذكاري، ونمشي!
 يوم 1 فبراير ده هيفضل محفور في قلوبنا وهنحيي الذكرى سواء أمام النصب أو في أي مكان تاني".

دقائق قليلة مرت على تجمع الشباب ذاته، لا جديد، الأمن يحكم قبضته على البوابة، يرسل لاستقبال المزيد من التعزيزات، البوابة تغلق بفعل الحواجز الحديدية، يولي الشباب ظهورهم للنادي، نظرة أخيرة نحو "البانر" العملاق الذي يعلو البوابة، يسكن الهدوء أرجاء النادي، حتى تمام الواحدة إلا الربع.

ثلاث ساعات قضاها الحاج مصطفى والد الشهيد محمد مصطفى ضمن الـ 74 شهيدا الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة فوق مدرجات ستاد بورسعيد في المباراة "المشئومة" بين الأهلي والمصري، لتترك في نفوس هؤلاء أثرًا لا تمحوه سنوات، ولا أكاليل زهور ودعوات لحفلات تأبين،"دم ابني اللي بقى على كراسي الاستاد احتسبته عند ربنا، لا جديد في حياة عم مصطفى منذ أن تركه ولده الوحيد، ليحضر مباراة تجمع ناديه الأقرب إلى قلبه، "كانت كلمة أهلي أول كلمة بعلمها له أول ما بدأ يتكلم"،
يوم وراء الآخر يمر، في انتظار صباح الأول من فبراير، "أنا ساكن في العمرانية، متعود كل يوم 1 فبراير، أجي النادي أقف قدام النصب التذكاري أكلم محمد وأنا عارف إنه سامعني، ابعتله سلام أمه اللي مبتعرفش تنزل وأمشي"، تتساقط الدموع من عينيه، يغالبها فتغلبه، "كان نفسه يطلع مهندس ويسافر بلدنا في بني سويف يبني بيوت للناس بدل القديمة، وبالفعل دخلها ومات في سنة أولى"، أكثر ما يؤلم مصطفى ويترك جرحه مفتوحا بعد هذه السنوات، أنه لم يكن في المنزل يوم نزل محمد لحضور المباراة، "أنا كنت مسافر في شغل في الكويت ورجعت بعد ما كان أدفن خلاص.. حبنا للنادي لسه مجمعنا حتى بعد ما حدث"، يلقى نظرة فاحصة على "البانر" الكبير، بحثا عن محمد، يجده، فيثبت عينيه على فمه الباسم.

على بعد أمتار قليلة من بوابة الشهداء توقفت إحدى السيارات نزلت أم "رشدي قائد أوركسترا التالتة شمال"، تتكأ على ذراع الأخت الوسطى، وفي المقدمة، الأخ الأكبر "خالد"، الأم تتشح بالسواد، تلقى نظرة على اللوحة ذاتها، كل يعرف وجهته التي جاء إليها، "أنا جاية علشان ده أكتر مكان هو بيحبه من وقت ما بدأ يشجع النادي عام 2007، هو لو عايش دلوقتي كان هيبقى عمره 29 سنة".

في الأول من فبراير من كل عام، الأسرة على موعد مع هذا الجدول الذي لا يتغير، "بنروح المقابر نقرأ الفاتحة ونوزع صدقات، وبعدين بنيجي هنا، إحنا مبنحسش إنه قريب مننا إلا بعد زيارة النادي والنصب التذكاري"، تتحدث الأخت الوسطى لرشدي، بينما تجفف الأم دموعها، قائلة "أنا لسه فاكرة يوم ما مات كأنه النهارده، كانت الدنيا بتمطر وقولت له يا ابني متروحش محدش يستاهل"، ليجيبها هو "أنا هروح يا أمي وحتى لو مت أنا عايز أموت شهيد"، لم يترك رشدي مباراة للأهلي إلا ويكون أول الحضور بمظهره الذي اعتاده كافة المشجعين، "حتى أنجولا راحها".

"يوم ما ابطل اشجع هكون ميت أكيد".. بعد مرور ست أعوام على مجزرة بورسعيد ما زال الحاج أشرف والد الشهيد محمد أشرف يحتفظ بتلك النغمة كـ "كول تون" لهاتفه رغم فراق ابنه الأكبر "رحل محمد وهو في الصف الأول الثانوى، محمد مكنش بيفكر في مستقبله خالص كان همه الأول والأخير النادي الأهلي ودائما يقوللى خليها على الله يا بابا " أنا مش هجوز، وأنا كان نفسي اشوفه مهندس".
أما والدة "أنس محيي" أصغر شهداء المجزرة، فتستعيد اليوم أحلام الفتى الصغير التي توقفت بسبب المباراة، "أنس استشهد ولم يتجاوز الـ16 عاما تاركا أما كانت تنتظر اليوم الذي تحقق فيه أحلامه، وهي تراه يوما بعد الآخر يكبر ويصير رجلا، تقول أم أنس:"حلم أنس أن يصبح لاعب كرة داخل جدران النادي الأهلي، حيث عشق جميع لاعبي الأهلي وأيضا اللاعبين الأجانب، كان يحلم أن يصبح مثلهم، لكن القدر حال دون تحقيق حلمه".
الجريدة الرسمية