توفيق الحكيم: كرهت الشعر والسباحة بسبب والدي
في مؤلفه "قلت ذات يوم"، يتحدث الأديب توفيـق الحكيم عن ذكريات الصبا والشباب، فكتب يقول:
انتقلت في السنة الثانية الابتدائية من المدرسة المحمدية بالقاهرة إلى مدرسة أخرى بدمنهور، وبدمنهور انقطعنا عن كل فن وتسلية، وهنا بدأ عهد قراءاتي الحقيقية واستغراقي في القصص على نطاق واسع.
جعلت ألتهـم كل ما يقع في يدي من كتب ومجلات، الجيد منها والرديء على السواء، كنت قد اجتزت تلك المرحلة الأولى للقراءة المتعثرة عندما كان الكثير من معاني الكلمات يغمض على، من ذلك كلمة "نص" وكنت أقرأها بضم النون وأفهمها أنها نصف، وعندما أصادف عبارة "ها هو نص الخطاب" ثرت في نفسي وقلت ولماذا نصه نحن نريد الخطاب كله.
وفى دمنهور تمكنت من لغتي لدرجة حسنة، وكان لشغفنا بقراءة القصص فضلا في تعلمنا اللغة العربية والإنشاء بأمتع الوسائل، إلا أن والدي ما كان يرضيه مطالعاتي للقصص المترجمة، وما كان يشجع عليها قط، والويل إذا لمح في يدي رواية منها.
إنه كان يريد مني شيئا آخر، وأذكر ذات يوم قبل التحاقي بالتعليم الأميري، كان يوم جمعة، وقد ارتدى والدي جلبابه الأبيض المنزلي يقرأ جريدته، وقال لي: تعال امتحنك وناولني كتاب المعلقات السبع ــــ وكان يحبه ــــ وأخرج لى ملعقة زهير بن أبى سلمى، وطلب مني أن أقرأها بصوت مرتفع.
ولما وصلت إلى البيت الذي يقول (ومن لم يصانع في أمور كثيرة.. يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم)، سألني عن معنى يصانع فلم أوفق في الإجابة، فصفعني على وجهي وأسال الدماء من فمي، أخذتني جدتي من يده وأنا ألعن المعلقات وأصحابها، بل ألعن الشعر كله.. وإلا كيف أن أحب الشعر وبينى وبينه دم مسفوك من فمي؟
كرهت الشعر بسبب أبي، وكرهت السباحة أيضًا بسبب أبي، ذلك أنه في يوم أراد أن يعلمني العوم في الإسكندرية ذات صيف فلم يفعل سوى أن جذبني من يدي إلى حيث يسبح هو في الأعماق دفعة واحدة، ولما أحسست القاع بقدمي ارتعت ارتياعًا شديدًا، فلم يكن في الإسكندرية في ذلك الوقت بلاجًا.. قذفني الموج على الرمال، ومن يومها وأنا لا أعرف البحر إلا وحشًا يفترسني.