رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية «لا» بـ3 ملايين دولار.. رشوة قدمتها المخابرات الأمريكية لـ«الضباط».. فخلدوا رفضهم ببناء «برج القاهرة».. «هيكل» يكشف الكواليس في كتابه «عبد الناصر وال

وكالة المخابرات العسكرية
وكالة المخابرات العسكرية الأمريكية

"ماما هو اللى بنى البرج ده الفراعنة ؟!"، عبارة تلقيها فتاة في عقدها الأول على والدتها، في حين تنتظران هما والعشرات وصول المصعد للطابق الأرضي: "لا يا حبيبتى ده الرئيس جمال عبد الناصر"، بعد نظرة فاحصة نحو جدران المبنى وأرضيته، ترد الأم، يصاب الواقف في انتظار وصول المصعد بالملل؛ ليبدأ في تجاذب الحديث والتقاط خيوطه من هذا وذاك، صداقات مؤقتة تمتد في الدقائق القليلة، بين سيدتين تتساءلان عن المادة المصنوعة منها حوائط البرج، وأخرى تتذمر لضيق المكان وقلة الأكسجين.


بعد دقائق قليلة يصل المصعد، المدخل قد تكدس بالزائرين، فوج في "العلبة" الحديدية الصغيرة، أثناء رحلة المصعد نحو هدفه، يستمع الزائر إلى صوت سيدة تردد عبارة "مرحبا بكم في برج القاهرة.. هذا البرج تم افتتاحه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1961"، تنتهي الرحلة ويصل المصعد للطابق الذي يحوي المطعم والكافتيريا، رحلة أخرى يشرع الزائر في إتمامها، فيبدو أن كل حركة وساكنة في هذا المكان رحلة مستقلة بذاتها، سلم ضيق للغاية، بالكاد يحوي اثنين بجوار بعضهما، أنبوبة من الجرانيت يتدافع بها الزوار نحو "البانوراما"، وجهة أصحاب الطبقة المتوسطة أو "الناس العاديين"، كما يطلق عليهم العمال، فالبانوراما لا تحتاج لزياراتها سوى الـ25 جنيهًا التي دفعت في الأسفل.

البانوراما
تتكون البانوراما من ساحة ضيقة تتخذ نفس استدارة مبنى البرج، حين تشب برأسك من خلال الحديد المثبت على أطرافها، تشعر وكأن عينيك تحولتا إلى راحتي يد تطبقان على القاهرة كلها في نظرة واحدة، خريطة كبيرة تفترش الأسفل، هنا فنادق وأبراج و"فيلات" وفى الجوار، مساكن شعبية وفى الخلف بنايات عشوائية، كل يجتمع في مشهد واحد، فالبرج لديه القدرة على أن يريك القاهرة بطبقاتها المختلفة، متجاورة ومتقاربة بشدة، لا فواصل ولا شوارع ولا حواجز، "المشهد من فوق مختلف تماما، أنا مصدومة"، عبارة ألقتها فتاة عشرينية على صديقتها، وهما ممسكتان بالحديد المدبب نحو الخارج، تشاهدان "مصر من فوق".

حائط البرج يوثق قصة حب "حبيبة ومصطفى".. وصداقة أمير وأحمد، داخل البانوراما "المكان المكشوف"، العديد من السيناريوهات، بين صديقات تلتقطن “السيلفي” وآخر يجرب “التليسكوب” المثبت على حافة السور، وفي جهة أخرى يقف مجموعة من الشباب في يد أحدهم قلم يكتب على الحائط المكتظ بعبارات رومانسية، قلب وسهمين، وكلمات غير واضحة، فضلًا عن شتائم الأصدقاء بعضهم لبعض، يشرع أحدهم في كتابة عبارة “للذكرى الخالدة”، حتى تأتى سيدة ستينية تنهره وتأخذ القلم من يده تلقيه بعيدًا، "حرام عليكم دمرتوا البلد وبتشوهوا ذكرى جميلة زي دي".

"من فترة كان فيه أمن بيقف يمنع الناس دى لكن دلوقتى العدد زاد، ومحدش بقى يسأل فيهم"، هكذا يتحدث منتصر أحد العاملين في البرج، عن سلوكيات الزوار التي تبدلت كليًا خلال الخمس سنوات الأخيرة.

ليالى برج القاهرة
في زي فرعوني وبابتسامة ترتسم على الوجه طوال الوقت، يقف “منتصر” وزميله “محمد” بين الجموع المحتشدة على سور المبنى، ممسكين بأوراق تشبه البردي، يعرضان منتجهما على الزائرين، ثم يعودان لذات المكان مجددًا، مرسلين الابتسامات لكل شخص في ضيافتهما.

"أنا شغال هنا من 7 سنين تقريبًا، كل يوم من الساعة 10 لحد نص الليل واقفين مع الزوار، الزوار هنا من بعد الثورة أغلبهم مصريون مبقاش فيه سياح إلا نادرًا، قبل ثورة يناير 2011 السطح ده كان 70% منه أجانب و30% فقط مصريين، خاصة ليلًا كلهم مصريون وعرب".

يلتفت منتصر حوله ليتأكد أنه لا أحد يريد أن يطلع على عروضه، ثم يستمر في الحديث ثانية عن يومياته في البرج: “البرج له مواسم مثل أي معلم سياحى في مصر”، ففي الأعياد والإجازات الرسمية يكثر عدد الزائرين بشكل كبير، وفى أوقات الذروة التي تبدأ من الثانية عشرة ظهرًا وحتى السابعة مساءً، فهذا الوقت هو الأنسب للعائلات، الذين باتوا يمثلون نسبة كبيرة من زوار البرج، “أما طوال الليل بيكون الشباب والسياح العرب، والنوع الثانى ده من الزوار عادة بينزل للكافيه أو المطعم”، فوجهة الزائر هناك تنحصر في ثلاثة أركان “البانوراما «الشعبية» والمطعم والكافتيريا”.

ثمة مجموعة من الأفراد يعتبرهم “منتصر” زبائنا للمكان، حيث يحرصون على المجيء إلى البرج في فترات دورية ثابتة، يشتاقون للبلد الذي لا ينام، فمذاق صخبها من أعلى يختلف تمام الاختلاف عن الولوج بين حواريها وأزقتها.. أسر من محافظات نائية، لا يستهويهم السير في شوارع القاهرة، فيستعيضون عن ذلك بجولة تفقدية من الطابق الـ62، فيبسط أمام “ماكيت” عملاق، تتراص فيه التفاصيل القاهرية الفريدة بشكل جذاب، مساحة خضراء للجزيرة، وفى النهاية يلوح سراب من بعيد كأنه يشير إلى عالم آخر يختبئ خلف القاهرة، لا يراه إلا الصاعد نحو البانوراما، والقابض على قطع الحديد المدببة.

حقيقة إنشاء البرج

حينما تم افتتاحه في الأيام الأخيرة من شهر أبريل عام 1961، وصفه اللواء الدكتور عادل شاهين، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق، بأنه أطول وأكبر “لا” في تاريخ العلاقات المصرية– الأمريكية، وخلاصة الرواية، كما وردت في كتاب الكاتب الصحفى الراحل محمد حسنين هيكل، «عبد الناصر والعالم»، الذي صدر بالإنجليزية عام ١٩٧١، ونشرت فصوله في عدد من الصحف العالمية، قبل أن يصدر في كتاب بالعربية عن دار «النهار» ببيروت، تقول إن «عبد الناصر» كان يبحث مع أعضاء مجلس قيادة الثورة بناء برج لاسلكي للاتصالات الدولية التي تقوم بها وزارة الخارجية مع السفارات المصرية بالخارج، وتقوم بها إدارة المخابرات وغيرها من أجهزة الأمن.

ولما اعترض بسبب نقص الميزانية، قيل له إن وكالة المخابرات الأمريكية وضعت تحت تصرف اللواء «محمد نجيب»، الزعيم الواجهة لثورة يوليو، ثلاثة ملايين دولار بشكل شخصي، فاستشاط عبد الناصر غضبًا وتوجه بسيارته إلى مجلس الوزراء، الذي كان «نجيب» يرأسه آنذاك، وطلب منه تفسيرًا، فقال له إنه فهم أن المبلغ مرسل من الرئيس «أيزنهاور» ضمن اعتمادات خصصها لرؤساء الدول؛ ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية.. فطلب عبدالناصر إيداع المبلغ خزينة إدارة المخابرات العامة، وأمر بعدم صرف أي شىء منه إلا بإذن من مجلس قيادة الثورة.

وتم تكليف المهندس نعوم شبيب بتصميم وإنشاء البرج، بما يتوافر مع طبيعة التربة في المنطقة، حتى لا يكون عرضة للتلف مع مرور السنوات، وبالفعل وفقًا لما يؤكده “محمد” أحد العاملين بالبرج، البرج لا يزال محافظًا على متانته وبنيته التحتية الأصلية، والتجديدات التي تتم به لا تتعدى إعادة الدهان لبعض الحوائط، و«آخر مرة حصل تجديدات للبرج كان من أربع سنين، وكلها في إطار التزيين فقط لكن المساحة والبنية الأساسية ثابتين»، وبذلك يكون برج القاهرة أحد عجائب الدنيا السبع، فإنه أثر مصري مشبع بالدماء المصرية، ولكن بأموال «الأمريكان».
الجريدة الرسمية