لماذا يجب رفض الخطأ والتمرد عليه!
مّر على المجتمع المصري ثورتان، ورغم ذلك لا أفهم حتى الآن نبرة العداء المنتشرة والمتأصلة، حتى بين الأوساط الثقافية والفكرية، لكل صاحب ثقافة احتجاجية، حتى لو كانت إصلاحية، أو حداثية هادئة وقورة، لا هدف لها إلا تغيير الواقع السيئ؟
ما كل هذا التكلس وتسويغ الباطل والخطأ، والتسارع الغريب في شرعنة هوى أي صاحب سلطة أو قرار؟.. لكل إنسان الحق في الاحتجاج، إذا ما تعرض لتضيق أو مصادرة، فلا ينبغي بأي حال أن نصبح مجرد ديكورًا لآخر، يرى في البشر مجرد وسائل للتعبير عن ذاته؛ يجب أن نطالب ليس لأنفسنا فقط، بل ولأبناء مجتمعنا بكل مكوناته، بأن يكون كل فرد فيه، صاحب حق أصيل في تشكيل معتقداته الفكرية وردود أفعاله، بما لا يعتدى بالطبع أو يتداخل مع حقوق الآخرين.
الانفتاح على الآخر يقوي كافة الأطراف، والنقاش والحوار حول خلاف ما، رمزية جرى تشويهها من الأصوليين، وأصحاب التوجهات الشمولية والرجعيين، على الرغم من أن الحوار العقلاني الهادئ وحده، هو الذي يقود البشر للتصرف بحكمة، ودونه سنقبع في أسفل القاع، نتحرك بارتجالية زاعقة، ننتظر مصيرنا المحتوم في علم الغيب ولا نكتبه بأيدينا مثل كافة الأمم التي وجدت طريقها إلى التقدم والرخاء والرفاة!
نقف في نفس الدائرة الغريبة، ونتحدث عن أشياء قتلت بحثًا منذ ثلاثة قرون تقريبا، عندما تغير وعي العالم، وبدأ التحرر من هناك، حيث انطفاء الشمس، والكائن الجليدي الذي يعشق الحرية، عن هذا المتسلط، المتقوقع تحت دفئ الحرارة الساخنة ينتظر تصاريف القدر؛ اكتشف الغرب أن هناك حاجة لاندلاع ثورات فكرية واجتماعية بالأساس تنقل البشرية إلى مجتمع مفتوح، بعيدا عن تلك التي تنشأ من الصراع على السلطة وحساباتها الضيقة؛ كانت شهوة عارمة للمجهولين من بني الإنسان، الذين يرغبون في تحرير أنفسهم وأذهانهم من هيمنة أي سلطة مطلقة، تفرمل التطور، وتمنع تجديد ما هو قائم، لصالح قلة منتكسة، واهمة بتفردها وامتلاكها لأدوات القوة والوعي عن غيرها.
بعيدا عن العامة وأصحاب المصالح، لن تجد إلا أنصار التنوير، المهمومين بالسعي إلى الحداثة، وحدهم الذين يروجون لأهمية نقد الممارسات الخاطئة والتمرد عليها، وهم الذين يرفضون القبلية السائدة حتى اليوم في مجتمعنا العربي، بل هي اللغة الأسمى للأسف على ألسنة من يدعون الفكر والثقافة، أو يشتغلون بها، الذين يروجون لمفاهيم الجماعية على النمط القبلي، دون أدنى اعتبار وتبجيل للفردية، التي هي أساس الليبرالية، والحداثة، والتقدم، والتنوير.
ترسيخ العدالة والتطور في مجتمع ما، أو مؤسسة، أو حتى عائلتك الصغيرة، في ظني قضايا مرتبطة بالنزاع حولها، فمتى نشأ خلاف يتحول إلى نزاع، سيتطور كل شيء بواسطة الضرورة، وأفضل انسجام ينتج دائما من التنافر، وهو ما تلقفته الثقافة المصرية الشعبية وقالوا عنها قديما «ما محبة إلا بعد عداوة»، فالأشياء الباردة تصبح ساخنة بمرور الوقت، وما هو رطب يصبح جافا والعكس، وكذلك الشباب والكهولة، والطريق الذي يؤدي إلى أعلى، هو نفسه الذي يؤدي إلى أسفل، وبالتالي يجب عليك فورا نقد الخطأ خصوصا الظاهر والمبالغ فيه، وعدم الانصياع له، مهما كان رد فعل صاحبه العدائي، شريطة أن يكون مقبولا وفي أُطره الشرعية.
الإنسان ليس مجرد قطعة لحم، إنما يمتلك ما هو أكثر، عقل، وحب للحقيقة، وخير للناس، واحترام ومودة، وصفات لا يتسع المقال لذكرها؛ خنق النقد وطمس الحقائق والتغطية على الخطأ، قاد العالم إلى محاكم تفتيش، وبوليس سري، وعصابات إجرامية، تبعها تحطيم وحشي لكل ما هو إنساني بالضرورة، ولا أظن أننا في حاجة لذلك.
ويبقى السؤال ببساطة ودون تعقيد: لماذا روجت أغلب الفلسفات الاجتماعية للثورة على الباطل، ورفضت النمطية والقبول بالأمر الواقع؟
أغلب الظن أنه الشعور بعدم الرضا عن عالم لا يستمر في أحكامه، ما تقبله اليوم سيصبح غدا من مسببات الإعاقة، ولا يمكن أن يظل على وتيره واحدة أو نمط واحد من الأفكار التي لا تستطيع تطوير نفسها.