مشاهد عبثية في المسألة الإعلامية
قبل يناير ٢٠١١، كان الإعلام يعاني من شح في الأخبار وندرة في الأحداث التي من شأنها فتح شهية المعد والمذيع ولفت انتباه المتلقي وجذب المعلن، ولأن المنافسة كانت قوية خاصة بين البرامج المسائية.. لجأ الجميع إلى صناعة الأحداث التي كانت في الأغلب بعيدة عن حيز السياسة، فجريمة القتل أو التحرش أو الاغتصاب أو حريق في منشأة أو سيدة تعاني من مس الجن أو رجل ضربته زوجته أو سيدة خلعت زوجها أو كلب عقر طفلا أو مسنة تعاني من جحود أبنائها، هذه التيمات وما شابهها كانت وجبة أساسية على مائدة البرامج المسائية، وكان الإبداع في تلفزتها بشكل مشوق يضمن جماهيرية أكبر للبرنامج وللقائمين عليه. وهناك أحداث أخرى كانت تتطلب إبداعًا أكبر وهي التي تتعلق بصناعة حصرية للحدث ليكون البرنامج أكثر تميزًا، مثل مغامرة داخل مستشفى لتتعرف على الخدمة بداخلها وعليك أن تلعب دور المريض ولا مانع من أن تلعب دور الطبيب أحيانًا، أو تسير عكس الاتجاه أعلى كوبري، أو تقتحم وكرًا للمخدرات متخفيًا في شخصية تاجر أو متعاط.
وإن أردت رصانة فعليك باستضافة وزير أو محافظ أو أحد كوادر الحزب الوطني، وإن أردت تجويدًا فعليك بمناظرة يبهرك طرفاها بعدم الاتفاق فقط على الشاشة ويدهشك اتفاقهما بعد انتهاء البرنامج وربما يتناولان العشاء سويًا في مكان هادئ ليتفقا على ما اختلافا عليه منذ دقائق، هكذا كان حال الإعلام قبل أحداث يناير، إن لم تجد الحدث فعليك بصناعته.
وجاء يناير بأحداثه المتلاحقة فاستغنى بها الإعلام عن أحداث كان يصنعها، ونتيجة لعدم التدريب على التعاطي مع هذه السيولة من الأخبار.. كانت العشوائية التي جعلت من المشتاقين مذيعين ومن العاطلين محللين ومن الهتيفة ثوارًا ومن التجار والسماسرة أصحاب قنوات، ولم يعد المذيع أو حتى الدخلاء على المهنة في حاجة إلى ضيوف، فكل منهم أصبح المذيع والضيف والمحلل السياسي والإستراتيجي وأحيانًا المتحدث باسم الشعب والحكومة والرئيس.
هذه العشوائية جعلتنا أمام مشاهد عبثية في التعاطي مع الأحداث، حتى الإنجازات.. لم تخل من العبث في طرحها ومناقشتها ربما لأنها لم تخضع للتجربة في السنوات العشر الأخيرة فجاء تناولها سطحيًا، أو أن الذين يتصدون لها لم يجهدوا أنفسهم في التفاصيل، أو أنهم غير مدربين وهؤلاء من تسللوا إلى الشاشة من حاملي مؤهلات غير إعلامية، أما التعاطي الإعلامي مع عودة الفريق أحمد شفيق لمصر فكان تجسيدًا لتلك الحالة العبثية التي خلفتها أحداث يناير، تعاطيًا لم يسئ فقط لشفيق لكنه أساء لمصر والإمارات والنظام في الدولتين.
أدرك تمامًا أن المنافسة والسبق مع كثرة القنوات يؤدي إلى عجلة في التناول قد ينتج عنها نسبة مقبولة من الأخطاء، وهذا هو حال برامج الهواء، فالكلمة التي تخرج لن تعود، لكن الإصرار على الخطأ يخرجنا من دائرة المقبول ليدخلنا في دائرة الجهل، وهذا ما حدث في تناول كل ما أحاط بعودة شفيق فكنا أمام مشهدين، الأول تجلت عبثيته، في وضع الرجل داخل قفص الاتهام، قالوا أنه يتحالف مع الخارج وأنه أهان دولة الإمارات وتنكر لها، ووجدنا من يؤكد أن الرجل تم القبض عليه وعاد مطرودًا، ثم وجدنا من يهدده بفتح ملفاته، بل أن أحدهم قال إن ملفات شفيق بين يديه، ورأينا من يطالب بسحب الجنسية منه، ورأينا من يتهمه أخلاقيًا، ومن أكد أن قضايا كثيرة تنتظره.
مباراة طويلة في احتكار الوطنية كان رأس الحربة فيها أشخاص كانوا يتوددون إلى جماعة الإخوان ويعرضون خدماتهم عليهم. أما المشهد الثاني فكان بمثابة المفاجأة التي أهالت التراب على أبطال المشهد الأول وقوضت كل مزاعمهم، أطل شفيق على الجميع ليؤكد أنه لم يأت مطرودًا من الإمارات، وأن كرم ضيافته امتد لأسرته في أبوظبي بعد عودته، وأن الاحتفاء به استمر حتى وصوله إلى الطائرة التي أقلته إلى مصر، ثم كانت حفاوة استقباله في مطار القاهرة من كبار المسئولين، وأنه لم يخضع للتحقيق من أي جهة، حتى أن الرجل اعتذر لمن أغضبهم تسلل كلمته إلى قناة الجزيرة، فهل يعتذر له من أحاطوه بإتهامات على مدار الأيام الأربعة الماضية.
على المستوى الشخصي لا أحبذ ترشيح الفريق شفيق لأنني كنت أتمنى أن يظل في مصر حتى لو كان مهددًا بالإغتيال من جماعة الإخوان كما تردد، فالدولة التي كفلت له الحماية أثناء خوضه الانتخابات كانت كفيلة بحمايته، والذين طالتهم التهديدات كثيرون، لكنه أصر على ترك مصر في فترة المواجهة مع الإخوان، أما إذا صح ما يتم تداوله من أن ممدوح حمزة وحازم عبدالعظيم هما الأقرب إليه.. فهذا كفيل برفض آخر لأن الاثنين لهما من الهوى الشخصي ما أفقدني الثقة بهما. وبعيدًا عن شخصنة الأمور.. لشفيق الحق في الترشح وخوض الانتخابات ليكون الصندوق هو الفيصل، ومهما اختلفنا عليه فالرجل قيمة كبيرة وخوضه الانتخابات ينأى بنا عن خالد على وأمثاله من الذين يسيء ترشحهم لمصر وللعملية الانتخابية.
بقيت تساؤلات وجب توجيهها لمذيعين جعلوا من أنفسهم قضاة فحكموا على شفيق، ألم تدركوا أن الفهلوة عمرها قصير؟ وألم تستوعبوا نداءات الرئيس في أكثر من محفل بتحري الدقة فيما تقولون؟ ألم يطلب الرئيس بعدم الإساءة لأحد وضرب مثلًا بنفسه أنه لم يرد حتى الإساءة بالإساءة؟ هل تخيلتم أنكم بالهجوم على على شفيق ترضون الرئيس؟ ألم يخجلكم تعامل كبار المسئولين مع شفيق وإحتفائهم به وبالتأكيد كان ذلك بتوجيهات من الرئيس؟ من ينافق الآن هو من نافق مبارك من قبل، ثم انقلب عليه ونافق من يسمى بثوار يناير، ثم انقلب عليهم ونافق المجلس العسكري، ثم انقلب عليه ونافق الإخوان، ثم انقلب عليهم وها هو مستمر في نفاقه لينقلب فتلك عادة المنافقين.
basher_hassan@hotmail.com