عند ربهم يرزقون

فجر الرابع والعشرين من الشهر الجارى، مشهدان متقابلان، مصريون يستعدون ليوم عيد جديد في حياتهم، جهزوا ثيابهم البيضاء لحضور الحفل الجليل، وآخرون من أعوان إبليس كانوا يخططون بليل، نسمات الهواء الباردة تلقى بصباح جديد على أهالي قرية الروضة الطيبين، الأب يجهز عطر الياسمين ليعطر أطفاله، الصغار مشغولون بالوضوء، الآباء يجهزون ليوم مقدس جديد، يضاف إلى أعيادهم.. "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (31) من سورة الأعراف.. صدق الله العظيم وصدق شهداء الروضة مع ربهم، إذ نشهد أنهم كانوا في ثياب الزينة التي أمرهم ربهم بها، تطهروا من دنس الدنيا وذهبوا إليه في أحلى الثياب وأجملها وأجلها وأكرمها.

على الجانب الآخر كان إبليس يجهز جنوده من القتلة والمجرمين، أسلحة الفتك جاهزة، سيارات الشر مستعدة، نيات الخراب تشحذ همم الموت الغادر، وصبية يمرحون في الطريق إلى واحد من بيوت الله العامرة بالخير والبهجة، يقبل أهل الله على بيته، مصاحف تزف للناس وعد الله الحق لشهدائه، بألا يخافوا ولا يحزنوا، صوت يتمتم "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " (169) من سورة آل عمران.

جلبة بريئة من أطفال في عمر الزهور، تصنع واحدة من حالات "اللمة المصرية" في مثل هذه الأيام الخالدة.. الآباء يضمون أبناءهم تحت أجنحة من الرحمة.. أب يعلم طفله كيف يتلو القرآن، وشيخ كبير يجمع حوله أحفاده يعلمهم كيف يصبحون من أهل السماء، وشاب شغل نفسه بذكر الواحد الأحد في "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ" (36) من سورة النور.. صدق الله العظيم وصدق له عباده، حيث توافدوا لذكر الله يسبحون بحمده في يوم جليل.

كانت كل أم تجهز في بيتها طعاما يجمع الأسرة حول مائدة قلما تتكرر في أيام أخرى بينما الإمام يستعد لقول الحق من على منبر الحق بلا خوف، فلا خوف في بيوت الله، فبيوت الله رمز الأمن والأمان، ومكان التسبيح والتكبير والتهليل وموضع العبادة للواحد القهار.

غمامة كبرى تمضي في سماء سيناء المباركة، وكأنها تستعد لإعلان الخبر الجلل.. يمضى الإمام متحدثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف جاء رحمة للعالمين.. تعدد الخطبة مآثر رسول كريم جاء لينتشل البشرية من عصور الظلام، منتقلا بها إلى نور التسامح وهدي الرحمن.. كرر الإمام وقائع الرحمة في حياة الأمين.. ثم صلى على الرسول وردد المصلون خلفه "اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد".

الجمع الكريم يبتهل إلى الله في عليائه، أكف الضراعة والرجاء تعلو فوق الجباه، تمتمات التسبيح والتهليل تملأ القلوب، ودمعات تسرى على الخدود راجية "اللهم أحسن ختامنا وتقبلنا مع الصديقين والشهداء.. اللهم أكرمنا وارحمنا برحمتك ياعلي يا قدير.. يا حنان يا منان "، وقبل أن تعود الأيدى إلى الصدور، كان شياطين الإنس قد أحاطوا بيت الله بتلال الغدر، نزلوا من سيارات ستذكر لهم يوم الحساب ما فعلوا.

دخلوا من أبواب المسجد الأربع.. فتحوا نيران أسلحة الشر في قلوب المبتهلين إلى الله، تطايرت أوراق المصاحف يمينا ويسارا، اعتلى الباطل منبر الحق، ممسكا برشاش ومرددا "الله أكبر"..نعم الله أكبر من كل معتد أثيم.. الله أكبر من كل شيطان رجيم.. الله أكبر من كل جبار عنيد.. الله أكبر من كل فاجر وقاتل وكافر..الله أكبر..الله أكبر.

أطلقوا نيرانهم في صدور المصلين، قتلوا الأطفال والشيوخ والشباب.. توهموا أنهم انتصروا لشيطانهم الرجيم، كانت جثامين الضحايا البالية تنفض عن نفسها كل متعلق بالحياة الزائفة، بينما تصعد أرواحهم إلى بارئها في لقاء العيد الأكبر، عيد الاستشهاد والعلو والرقى، ارتقوا إلى سماء لا يظلم فيها أحد، صعدوا إلى حيث لا ظلم بعد اليوم، حيث لا موت بعد اليوم، انتقلوا ليحيوا عند ربهم يرزقون.

خرج المجرمون إلى شوارع القرية الآمنة يقتلون ويفجرون ويسحقون كل ألوان الحياة، حتى سيارات الإسعاف يطاردها الخونة في الشوارع وهي تنقل المصابين، يقطعون الطريق عليها، يقتلون كل من لم يكن الانتقال من نصيبه، يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.. لقد قتلوا الذاكرين، المبتهلين، المصلين، ظنوا وكل ظنونهم إثم أنهم انتصروا للغة الموت على الحياة، كانت دماء الصاعدين إلى الله قد غطت المكان،غسلت شرور البشر، كتبت في محراب الصلاة " بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) من سورة آل عمران صدق الله العظيم.