رئيس التحرير
عصام كامل

المؤامرة الكبرى


طعنة بروتس ليست هى الوحيدة المتربعة على عرش المؤامرة والخيانة فى التاريخ، ولا يوليوس قيصر هو الوحيد الذى طُعِنَ من الخلف غدرًا، فمصر أيضًا تجرعت من هذه الكأس، ولكنها لم تسقط غارقة فى دمائها كالقيصر.

فالمعادلة مع أم الدنيا تختلف ولا تخضع لموازين المنطق العام أبدًا، هناك اعتقاد سائد بين كل المصريين اليوم يوكد أن مصرنا الحبيبة مقبلة على مؤامرة كبرى سوف تنال من أيدلوجية نسيجها الاجتماعى العريق، ولكن قبل أن نسلم بهذه الحقيقة دعونا نحلق تحليقًا خاطفًا فى سماوات تاريخ مصر، فهناك تكمن الحقائق التى قد تقلب ميزان المنطق تماما ...

البداية مع خمارويه بن أحمد بن طولون ملك مصر منذ أكثر من ألف سنة، وأغنى أغنياء العالم فى زمانه، كان وديعًا محبًّا للمصريين، يركن إلى السلام أكثر منه إلى الحرب، فتآمر عليه رجال قصره الكارهون للشعب المصرى وذبحوه على فراش نومه، فبكت عليه مصر كلها، وظن المتآمرون أنهم تخلصوا منه، ولكن الحقيقة أنهم قد حكموا على أنفسهم بالفناء، فقد انقلبت عليهم الحياة بأكملها وزال مجدهم سريعًا، واحترقت مصر الطولونية كلها، ولم يبقَ سوى المصريين وفى ذمتهم سيرة خمارويه التى لن تنسى أبدا.  


وكعادته دائمًا يتصدر المشهد بإبداعاته المتفردة الحاكم بأمر الله الذى دبّر مؤامرة كبرى ضد المصريين جميعًا؛ لأنهم سخروا منه بشكل كوميدى كعادتهم، فدبر المؤامرة مع الجالية السودانية على حرق مصر القديمة وإذلال المصريين، وبالفعل كان، وحينما احتج الشعب وشعر الحاكم بالخطر قرر أن يغدر بالسودانيين، وأمر بإعدامهم جميعًا، وبعد قليل اختفى الحاكم فى ظروف غامضة، وهكذا انتقم القدر من المدبر والقاتل، وبقيت مصر شامخة .

وكذلك أيضًا كان الحال بالنسبة للأتراك؛ هذه الجالية التى تحكمت فى المصريين لسنوات عديدة، قتلت فينا الشعور بالأمن والسلام، وقبضت على قوت المصريين، فكان الجزاء السماوى على يد الأرمنى خالد الذكر بدر الجمالى الذى دبّر مؤامرة فريدة من نوعها تخلص فيها منهم جميعًا بعد أن طغوا، فانقرض جنس الأتراك من مصر منذ ذلك الحين وحل مكانهم جنس الأرمن، وهم باقون فيها إلى يومنا هذا . 

وقد يلتبس علينا الأمر حينما نرى شجر الدر وهى تدبر مؤامرة محكمة للقضاء على ملك مصر المملوكى أيبك، وقد تمت الجريمة فى حمام القلعة تحت جنح الظلام، وبأيدى خدامه، فمات المسكين غرقًا، وانتقم القدر من شجر الدر فقُتِلَت بالشباشب، ورُمِيت جثتها أمام القلعة فى العراء ثلاثة أيام لم يقترب منها أحد، حتى تحنّن قلب المصريين عليها فكفّنوها ودفنت بإكرام .

قد يظن القارئ أن هذه الحادثة لم تنَل من الإنسان المصرى بشكل مباشر، ولكن الحقيقة تجزم بأن هذه المؤامرة هى التى فتحت الباب لعصر الخيانة الأكبر فى تاريخ مصر؛ حكم المماليك أو الصعاليك، الذى امتد لأكثر من ٢٥٠ سنة، لم يكن فيها الشعب المصرى متفرجًا بل كان مطعونًا فى إنسانيته .

وتتجلى بوضوح نظرية المؤامرة فى خائن بك عفوًا "خاير بك"؛ أحد أبرز قواد السلطان الغورى ونائبه على حلب، فقد قام بالاتفاق مع العثمانيين وخان سيده، فسقطت مصر فى أيدى العثمانيين، وواقع الحال يقول: إن الغورى لم يخسر سوى رأسه! وخاير بك لم يكسب سوى خمس سنوات فقط كل ما تبقى من حياته بعد هذه المؤامرة، أما مصر ومعها المصريون فقد دفعت هذه المرة الثمن باهظًا؛ ٣٠٠ سنة من الظلام والجهل، دمّرت فيها حضارة الإنسان المصرى، ولكن دائمًا يأبى القدر أن تخرج مصر خاسرة .


فقد تلاحم المصريون جميعًا تحت وطأة الظلم العثمانى، وانصهرت المسيحية والإسلام داخل بوتقة الكيان المصرى المضطهد من العثمانيين أشباه البشر. 

ولا يمكن أن ننتهى من المقال قبل أن نستمع إلى سيمفونية الغدر والخيانة التى ألقاها محمد على باشا على مسامع التاريخ داخل قلعة الجبل الشاهد الوحيد على المجزرة التى كتبت نهاية قصة المماليك الأليمة مع المصريين، وفى هذه المرة ربح محمد على المُلك، ولكنه باع ضميره، وكانت نهايته أليمة خالية من الرحمة، وقد انقرض سلطان ذريته وانتقل إلى أيدى المصريين مباشرة.

والآن وبعد أن عدنا إلى الحاضر من جديد نطرح السؤال المباشر على هؤلاء الذين يتربصون بمصر وفى مخيلتهم أن المؤامرة الكامنة فى ضمائرهم سوف تنجح، هل أنتم بالفعل على وشك أن تفعلوها مع أم الدنيا؟ 

إن كانت الإجابة بـ"نعم" فأعتقد أن السالف قد حدد بوضوح المصير المحتوم لكم ولأمثالكم، وإن كانت الإجابة "لا" فيكون قد كتب لكم البقاء والنجاة من هاوية النسيان المصرية التى لن تشبع أبدًا.

الجريدة الرسمية