رئيس التحرير
عصام كامل

ديمقراطية السوق المأزومة

فيتو

على الرغم من أهمية أنظمة الحكم في استقرار الديمقراطيات الغربية ونموها، فإن العامل الأساس الذي شكّل صمام أمان في هذا الاستقرار هو الاقتصاد. وللوقوف على دوره السلبي المحتمل على مصير هذه الديمقراطيات، لا بد من الإشارة إلى دوره السابق في بنائها، والتسبب بعظمتها.


لقد صار معروفاً أن سيطرة الغربيين على العالم بدأت تدريجاً، عندما سادوا على طرق العالم التجارية واكتشفوا أمريكا، واستعمروا معظم القارات الخمس. أدت هذه السيطرة إلى نهب وتجميع ثروات خرافية في العواصم الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم إلى تراكم العلوم فيها، وإلى انفجار الثورة الصناعية، ومن ضمنها تطوير أسلحة قاتلة وحامية للهرمية العالمية التي أقاموها على الكرة الأرضية، ورادعة لكل محاولات تعديل هذه الهرمية بقوة السلاح، وآخرها حروب الخليج . لذا ما كان مستغرباً أن تعلن العواصم الغربية في حرب الخليج الأولى أنها تجابه طرفاً يريد إعادة النظر بهذه الهرمية، وأن الغربيين يقاتلون من أجل الحفاظ على نمط حياتهم المهدد، وفق قناعتهم من النظام العراقي صاحب "رابع أقوى جيوش العالم"، بحسب أساطير تلك الفترة.

وكان لافتاً أن ترتفع أصوات قوية في الغرب، وبخاصة في فرنسا وألمانيا، وهي بمنزلة القلب من أوروبا الغربية، ضد حرب الخليج الثانية التي شنها العام 2003 ، جورج بوش الابن، تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، بل ما كان مفاجئاً أن تهدد فرنسا باستخدام الفيتو لعدم إعطاء تلك الحرب شرعية أممية، لأن الطرف المعني، أي العراق، ما عاد يشكل تهديداً لنمط حياة الغربيين، وصار محطماً بعد سنوات طويلة من العزلة والعقوبات، وفي الحالتين كان القياس نوع التهديد الذي يطال هرمية السوق الدولية، أكان خارجياً أم داخلياً، صدام حسين أم جورج بوش.

والواضح أن تنظيم العالم وآليات عمله مصمم من أجل احترام الهرمية المذكورة التي تحمي نمط حياة الغربيين المرتفع في التراتب الدولي، والواضح أيضاً أن ثقافة سياسية اندماجية وضعها الغربيون لهذه الغاية، وتتمحور على منظومة قيم وحقوق وقواعد سلوك نشروها في مختلف أنحاء العالم، وخلقوا من حولها مراجع تحكيم، تمنح بدورها مراتب ونقاطاً حسنة وسيئة لهذه الدولة أو تلك، ولهذا الشعب أو ذاك. وتنطوي هذه المنظومة على مدونة سلوك اقتصادي مرتبط بسياسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وبأحكامهما، فكأن العالم سوق كبيرة يقف الغربيون على رأس السلم فيها، والآخرون يحتلون درجات أدنى فأدنى، وكأن حياة العالم وفق هذه الهرمية تبقى وتدوم ما بقيت ودامت الهرمية.

ومن المفيد في هذا السياق إلقاء الضوء على حكم "الدولة الفاشلة"، فهي وفق الهرمية المذكورة، الدولة التي تتمرد على قواعد السلوك المشار إليها أعلاه، أو تخفق في الاستجابة لشروطه لأسباب داخلية خاصة بها، والفشل يوزاي الموت الزؤام، لأنه يعني التهميش، أي الخروج من السوق والعيش على هامشها، كما هي حال الصومال خلال العقود الطويلة الماضية، وهو لم يعد إلى السوق إلا بعد أن مارس شطر من أهله القرصنة والتعدي على خطوط التجارة والمواصلات البحرية الدولية، وبالتالي صارت كلفة التصدي الدولية للقرصنة أكبر، بما لا يقاس من كلفة استيعاب الصومال مجدداً في السوق، وبشروط ملائمة للصوماليين.

خلاصة القول إن مصير الديمقراطيات الغربية معلق أولاً وأخيراً على السوق العالمية الذي أقامه الغرب والذي حماه ومازال يحميه، هذه السوق الذي تغلب على 70 عاماً من البناء السوفييتي، وربح الحرب البادرة دون حرب ساخنة، واستدمج دول العالم الاشتراكي السابقة دون صعوبات تذكر. وبما أن مصير الديمقراطيات الغربية مرتبط بالسوق وليس بأنظمة الحكم، فقد دافع الغربيون عنه بنجاح ضد السوفييت، كما أشرنا، وضد "الدول المارقة"، بحسب التسمية الغربية، وضد التيارات الدينية المناهضة أو المنظمات "الإرهابية"، إلا أنهم لم ينجحوا بعد في حمايته من الانفجار الداخلي في السنوات الأخيرة من جراء التلاعب بالأسواق المالية، ما أدى ربما للمرة الأولى منذ أزمة العام 1929 ، إلى زلزال مابرحت ارتدادته مستمرة حتى اللحظة، وما برحت وسائل التصدي له أقل من المطلوب، حيث صرنا نجد "دولاً فاشلة" في قلب أوروبا الغربية، شأن اليونان وربما البرتغال قريباً، وعلى مسافات غير بعيدة إسبانيا وإيطاليا . . و . . إلخ.

مناخات الأسواق المأزومة خيمت على فرنسا بطبيعة الحال، وفي ظلها انفجرت قضية جيرار دوبارديو الممثل الشهير الذي اختار العيش في بلجيكا حتى يتهرب من الضرائب، الأمر الذي أثار سجالاً مذهلاً بين أهل الفن وأهل السياسة على خيار الرجل، فمنهم من وصفه بالخائن والأناني واللاوطني الذي لا يريد أن يتحمل مع بلده قسطاً من كلفة أزمة الأسواق والجمود الاقتصادي، ومنهم من وافق على خياره، معتبراً أنه تحمّل أعباء بما فيه الكفاية، وما عاد قادراً على التحمل.

ولعل من حسن حظه أن الإصلاح الضريبي الذي دفعه إلى الفرار قد فشل للتو، لكن فشله لم يضع حداً لأجواء "النزاع الأهلي" التي تحدثت عنها الممثلة الشهيرة كاترين دونوف، إذ قالت "إن منتقدي دوبارديو أشبه بدمويي الثورة الفرنسية، وإنهم يستخدمون لغة الحرب الأهلية".

وحتى يصبح كلامها مفهوماً، نشير لمن لا يعرفون فرنسا، إلى أن الملكية الفرنسية انهارت في القرن الثامن عشر، عندما رفض النبلاء والإكليروس تحمل تبعات أزمة اقتصادية طاحنة عشية الثورة البرجوازية، واجتمعوا كما هو الحال اليوم على تحميل عامة الشعب نتائجها، فكان الانفجار وكانت لغة الدم، وكانت الحروب الأهلية.

مجمل القول إن الديمقراطية الفرنسية، كما الديمقراطيات الغربية، عرفت استقراراً طويلاً بفضل الهرمية الدولية التي أقامتها حول سوق عالمية نجحت في حمايتها من الخارج بوسائل مختلفة، وهي لم تنجح بعد في حمايتها من التلاعب الداخلي بالأسهم الوهمية والديون الخرافية، وإن أخفقت فسيكون من الصعب توقع ليس فقط مصير الديمقراطيات الغربية، بل مصير العالم وهرميته، أو هرمياته المقبلة.
نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية