سلسلة تجارب اقتصادية ناجحة.. التجربة البرازيلية
استمرت الحكومة الحالية والأغلبية البرلمانية المؤيدة لها في تطبيق سياسات اقتصادية خاطئة يدفع ثمنها المواطن البسيط تحت شعار أنه الدواء المر الذي لابد من تجرعه حتى نتعافى، وأنه لا بديل عن هذا العلقم حتى نتجاوز الأزمة التي خلفتها سنوات حكم عجاف.. ولم ننقطع يوما عن تأكيد عدم صحة هذه الإجراءات وفي أحسن الأحوال عدم مناسبتها للواقع المصري.. ورغم أننا طرحنا دائمًا بدائل؛ فإننا نجد من الأغلبية البرلمانية ومنابرها اتهاما وترويجًا بعدم تقديم بدائل، فكان لابد من وضعها مكتوبة أمام الجميع وواضحة للكل لعل هذا يكون فاصلًا بين القول والفعل وبين اتباع سياسات حمقاء ورسم طريق جديد للمستقبل.
والحقيقة إننا قد استلهمنا عنوان سلسلة التجارب التي نعرضها من أحد أفلام أبرز نجوم الكوميديا المصرية في العصر الحديث وهو "التجربة الدنماركية" بكل ما فيها من كوميديا ساخرة، إلا أننا سنرى الوجه المشرق من هذه التجارب ونضحك أو قد نبكي أنها أمامنا ولا نستطيع قراءتها ونستمر في سماع نصائح صندوق النقد المحفوظة والتي لم تنجح يومًا في أي بلد آخر.
أولًا: أسباب اختيار التجربة البرازيلية
يمكن القول إن أسباب اختيار نموذج البرازيل في التنمية والنهضة الاقتصادية يرجع إلى عدة أسباب تتمثل في تشابه العديد من الجوانب بين البرازيل وبعض الدول العربية من الطبيعة الديمغرافية والجيوستراتيجية، كما تعتبر تجربة النهضة الاقتصادية في البرازيل مقدمة من إحدى الدولة النامية التي تتشابه في ظروفها الاقتصاد المصري، والتي استطاعت أن تتصدى للتحديات دون الحاجة إلى اتباع سياسات وأجندات خارجية.. هذا فضلًا عما يربط البرازيل والدول العربية من علاقات تاريخية، حيث يوجد بالبرازيل قرابة 12 مليون مواطن من أصول عربية (غالبيتهم من أصول لبنانية وسورية وفلسطينية)، وكذلك التنسيق العربي-البرازيلي في المواقف حيال العديد من القضايا مثل القضية الفلسطينية، التجارة العالمية، البيئة والتغيرات المناخية، ونزع أسلحة الدمار الشامل.
وأخيرًا؛ تقديم البرازيل نموذجًا نجاحًا في عدة قطاعات كمكافحة الفقر والجوع والصحة والطاقة والزراعة، والاستفادة من القدرات البشرية لها واستغلال التنوع الثقافي لصالح الإنتاج، وقد استطاعت البرازيل تقديم تجربة راعت من خلالها أصحاب رءوس الأموال وكذلك المواطنين الفقراء.
ثانيًا: التجربة الاقتصادية التنموية البرازيلية
مثلت البرازيل تجربة اقتصادية وسياسية ناجحة يمكن الاستفادة منها في العديد من المستويات، فقد استطاعت خلال فترة وجيزة أن تصبح سادس أكبر اقتصاد عالمي بل وفي عام 2013 تخطت الاقتصاد البريطاني، فبعد أن كان صندوق النقد الدولي يرفض إقراض البرازيل أواخر عام 2002 أصبح مدينا لها بـــ 14 مليار دولار عقب ثمانية أعوام من العمل بسياسات الرئيس "لولا دا سيلفا".
استهدف الرئيس "لولا دا سيلفا" في بداية توليه السلطة مكافحة الفقر والجوع وقد اتضح ذلك في طرحه برنامج "صفر جوع" والذي كان يهدف من خلاله إلى القضاء على الجوع والفقر في أنحاء البلاد وبالفعل نجح الرئيس "لولا دا سيلفا" خلال خمس سنوات في إفادة نحو 24 مليون شخص، والحد من سوء التغذية بنسبة 25%، وتراجع نسبة سوء التغذية لدى الأطفال، وقد وصفه برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة عام 2010 بلقب البطل العالمي لمكافحة الجوع.
كما اتبع برنامج "الدعم العائلي" والذي يُسمى "بولسافاميليا" ويقوم ليس فقط على تقديم إعانات مادية للأسر الفقيرة والتي قد عرّفها أنها الأسر التي يقل دخلها عن 28 دولارا شهريًا، إنما قام بربطها بإرسال الأولاد إلى المدارس في خطوة منه لمحاربة التسرب من المدارس والقضاء على الأمية، فقد ارتبط البرنامج بشروط صارمة تشمل الآتي:
التزام الأسرة بإرسال أطفالها للتعليم، والالتزام بالحصول على الأمصال واللقاحات للأطفال بشكل منتظم.. وقد استطاع هذا البرنامج تحقيق نتائج متميزة خلال فترة حكم "لولا"، حيث وصل عدد المستفيدين إلى نحو 11 مليون أسرة (33% من الشعب البرازيلي).. وقد أدى ربط برنامج "بولسافاميليا" بالشروط السابقة إلى ارتفاع معدل التعليم المدرسي، وزيادة معدلات الالتحاق بالتعليم العالى بنسبة 63% ما بين عامي 2003 و2009، وخلق فرص عمل تُقدر بـــ 14 مليون وظيفة.
كما طرحت حكومة "لولا" خطة لتسريع النمو، وتنمية الأقاليم المهمشة وتحقيق عدالة التنمية، من خلال تطوير البنية التحتية من بناء طرق جديدة و2 مليون منزل وتحسين خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وهو ما أدى إلى توظيف أهالي تلك المناطق في مشروعات تطويرها مما قلل من معدلات البطالة، وحققت هذه البرامج مجتمعة أهدافها حيث: تراجع معدلات الفقر، انخفاض التفاوت في الدخل، تنشيط الاقتصاد، دمج فئات جديدة من السكان في سوق العمل الرسمي وسوق الاستهلاك، ومن ثم أصبح لدى البرازيل طبقة وسطى قوية والتي تعتبر ركيزة المجتمع.
كما تم اتباع سياسات اقتصادية تعتمد على تشجيع الصناعة المحلية وإحلال الواردات كتغيير سياسات الإقراض؛ حيث خفض سعر الفائدة من 13.25% إلى 8.75%، وهو ما سهل عملية الإقراض وفتح فرص للمستثمرين ذوي المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وتوفير فرص عمل ورفع الطاقة الإنتاجية.
تشجيع الزراعة والصناعات التي تدعمها الدولة؛ فقد اعتمدت البرازيل على تصدير المنتجات الخام، واستطاعت عام 2008 خلال الأزمة العالمية الاستفادة من ارتفاع أسعار المواد الخام في الأسواق العالمية، وهو أمر أسهم بشكل كبير في سد عجز ميزان المدفوعات، كما قامت الحكومة بسياسات خاصة بدعم الفلاح والزراعة.
الاهتمام بمجال الصناعة؛ فقد اهتمت الدولة بالصناعات سواء البسيطة التي تعتمد على المواد الخام كالتعدين والصناعات الغذائية والجلدية والنسيج، أو الصناعات التقنية المتقدمة كصناعة السيارات والطائرات فقد مثلت شركة إمبراير 37% من أسطول شركات الطيران الإقليمية في أمريكا، وأخذت في التقدم نتيجة سياسات "لولا".
كذلك اهتم بتنشيط قطاع السياحة؛ فقد استطاع لولا وإدارته ابتكار نوع خاص من السياحة يُعرف بسياحة "المهرجانات"؛ فهى تمتلك تراثًا شعبيًّا شديد الخصوصية، ونجحت في الترويج لخصوصياتها، كما نجحت في استقبال 5 ملايين سائح سنويًّا، وهو ما أسهم في إنعاش الاقتصاد وتحقيق المزيد من النمو.
وأخيرًا؛ لم يكتف "لولا" بالسياسات الداخلية المحلية، ولكنه اتجه إلى التكتلات الإقليمية؛ وذلك على ثلاث دوائر أفريقية، شرق أوسطية، وإقليميا بين دول أمريكا الجنوبية فقد اعتمدت على منظمة "الميروكسور"، وهي بمثابة السوق المشتركة لدول الجنوب، وتشكلت باعتبارها اتفاقية للتجارة الإقليمية بين كل من: البرازيل، والأرجنتين، وباراجواي، وأوروجواي، عام 1991م، وبعضوية غير كاملة لفنزويلا، وبوليفيا.. كما شكلت قمة أفريقية جنوبية وتُعد اليوم رابع أكبر قوة اقتصادية في العالم.. كما شكلت البرازيل مع روسيا والصين والهند مجموعة (البريكس) سنة 2009م، ثم انضمت لهم جنوب أفريقيا في 2010م، وهو تجمع لخمس دول تعد صاحبة أكبر اقتصاديات على مستوى الدول النامية، حيث يعادل الناتج الإجمالي المحلي لتلك الدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة.
ثالثًا: الدروس المستفادة من التجربة البرازيلية
في النهاية يمكن القول إن هذه السياسات لم تكن لتنجح لولا توفر عدة أمور تتمثل في الآتي:
-توفر الرؤية الواضحة والإرادة السياسية القوية والشفافية، مع استمرار دور الدولة في توجيه السوق وتنظيم عمل القطاع الخاص.
-اعتماد برامج العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر تعتمد على حل خلق فرص عمل جديدة، ومكافحة الأمية وتحسين الصحة، والاهتمام بفكرة المشاركة من قبل المواطنين للنهوض بالاقتصاد الوطني.
-الإدراك الجيد لقوة الدولة اقتصاديًا واتباع سياسات إقليمية ودولية تتناسب مع قوتها الاقتصادية وتخدم أهدافها التنموية.
-الاعتماد على تنمية قطاعات تنمية حقيقية مثل القطاع الزراعي والصناعي والسياحي وهو ما تملك فيهم مصر إمكانيات هائلة.
وعلى الرغم من القصور الذي شابه التجربة البرازيلية بعد رحيل لولا دي سيلفا فإنها تظل مثالًا يمكن الاقتداء به وتعبيرًا على نجاح الدولة في القيام بدورها وليس الانسحاب منه للنهوض من عثرتها الاقتصادية دون الحاجة إلى قروض خارجية أو أجندات خارجية ومراعاة الظروف الداخلية للدولة.