رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية «عم كرم» جزمجي ماسبيرو والخارجية «تقرير مصور»

فيتو

وأنت تتجول بين حارات مثلث ماسبيرو الهادئة شبه الخالية من السكان، وبالتحديد عند شارع الشيخ علي، ستلتفت رغما عنك لأحد المحال، لا لميزة فيه، فهو في كل الأحوال لا يحمل اسما ولا تزين مدخله لافتة، ولكن لأنه هو "الدكان" الذي لا يزال يعمل في تلك المنطقة، التي أوشكت على أن تصبح مهجورة.


بمجرد الاقتراب منه ستذهب عيناك- رغمًا عنك- إلى أكوام من الأحذية على أرفف بجدران الدكان، يصعب اكتشاف ما إذا كانت بالية أو صالحة للاستخدام بفضل أكوام الأتربة التي أضاعت ملامحها.

وفي الركن الأيسر من الدكان المزدحم بأدوات وأحذية وأتربة يمكث كرم بدر، رجل خمسيني، يحيطه صمت لا يكسره سوى صوت خافت، يصدر عن تليفزيون قديم، تمامًا مثل الجو العام لدكانه، يتداخل مع أصوات الأدوات التي يستخدمها عم كرم، جزمجي "ماسبيرو والخارجية".

"بقالي في المهنة دي 35 سنة، ما أعرفش غيرها شغلانة"، خلال سنوات عمره التي قضاها عم كرم في مهنته، عادة ما يكون جدول يومه ثابتا "أنا ساكن في بولاق، بفتح المحل من 12 الظهر"، يأتي في حلة بهية وبملابس نظيفة، غير تلك التي يجلس بها في الدكان حتى منتصف الليل.

12 ساعة يقضيها عم كرم في دكانه، يجلس منتظرًا رزقه الذي يتركه على الله، لا يؤنسه خلال يومه سوى بعض الزبائن وأكواب الشاي التي تهون عليه مرور ساعات بدون أن يأتي أحد، وفي قلبه حزن خفي وحنين لزمن مضى وانقضى كان لصنعته "شنة ورنة".

أما الآن فما عليه إلا أن يحمد الله ويشكره، بالرغم من أن الحال أصبح غير الحال.

"الشغلانة ما بقيتش زي زمان، قليل أوي اللي بيصلح جزمة بعد ما تتقطع، اليومين دول الناس بترميها وتشتري واحدة جديدة، أما زمان يا عيني على زمان، كنت بصلح جزم وبفصل كمان"، كان عمله لا يتوقف حتى إن بعض العائلات كانت تأتي إليه بكل ما لديها من أحذية تحتاج إلى الإصلاح ليعيدها إلى حالتها الأولى من جديد، "كل الجزم اللي على الأرفف دي ناس نسيتها عندي وأحيانا بيطلبوها بعد سنة أو أكتر".

في حنين لزمن المهنة الجميل يتذكر عم كرم "زمان اللي كان بيفصل ده كان بيبقى حد قيمة فاهم، دلوقتي الجزم الجاهزة أرخص من التفصيل بكتير والناس بقت بتسترخص وبتشتري حتى لو الجلد رخيص وأي كلام"، مع مرور الوقت أصبح الطلب على التفصيل أمرًا نادرًا "القوالب بقت مرمية على الأرض من قلة الاستخدام، من سنة 90 تقريبا الدنيا اتبدلت والجزم الجاهزة بقت هي الكل في الكل".

"أغلبية زبايني من الإذاعة والتليفزيون والخارجية، بيجي مخرجين وناس كويسة قيمة ومركز، ما أعرفش أسماءهم، بس هما ناس محترمة، بيصلحوا الجزم وفيه منهم بيطلب أفصل له جزمة محترمة".

"التفصيل في أيامنا دي أسعاره ما تقلش عن 200 جنيه"، بينما كانت في الماضي تتراوح ما بين 18 إلى 20 جنيه، السعر ده كان غالي زمان، بس كانت جزم جلد طبيعي تعيش وتستحمل".

ولأن من يقدر التفصيل أصبح زبونًا نادرًا، ينصب جل تركيز عم كرم حاليًا على تصليح الأحذية بضغط النار أو بالخياطة، إصلاح كعوب الأحذية الحريمي المكسورة وإعادتها إلى حالتها الأولى، وأيضًا تغيير "النعل" وخياطته ليكون أكثر متانة.

تكلفة الإصلاح تتراوح ما بين 4 جنيهات وحتى 6 جنيهات، "وأهو كله على الله، بتتقضى وربنا بيسترها معانا"، وبالرغم من ضعف الإقبال والجنيهات القليلة التي يحصل عليها يوميًا، والتي لا تكفي وسط ارتفاع الأسعار، إلا أن الرضا لا يزال يسكن قلبه.

"الجزم بتاعت اليومين دول مش قد كدة، أحيانًا بيجيلي زباين عشان أخيط الجزم وتبقى ماسكة نفسها وما تتهلكش بسرعة، أصل الجزم الرخيصة دي بقت كلها أي كلام"، ويؤمن عم كرم أن الزبون يجب أن يفكر في الأمر قليلًا، "لو حسبها بعقله هيلاقي الجزمة الغالية هتعيش معاه لكن الجزمة الرخيصة هتتقطع بعد أسبوعين وبيرميها".

"الكماشة" والمقص والشاكوش والقوالب وماكينة التوسيع وماكينة خياطة "وش الجزمة"، وماكينة خياطة "النعل" جميعها أدواته لأداء مهامه على مدى 35 عامًا.


في الماضي دفع عم كرم "دم قلبه" من أجل شراء هذه الماكينات التي لم تخذله يومًا في أداء عمله على أكمل وجه، "ماكينة الخياطة العادية يدوية بتشتغل بدون كهرباء وبتعتمد على حركة رجلي ودي من أهم أدواتي، ومعداتي هي هي من أيام ما اشتريتها زمان، مش محتاج أجددها".

"الشغلانة أكيد فيها مخاطر، وماكينة خياطة النعل هي أخطر المعدات لأني مش ببقى شايف الإبرة داخلة فين، فأحيانًا بتدخل في أيدي، قبل كده أيدي اتفتحت من الماكينة خيطتها في المستشفى، ورجعت كملت شغل، ولما أتجرح من ماكينة النعل باخد حقنة تيتانوس، وأرجع تاني أكمل، أصلي اتعودت".

"أنا جزمجي أبًا عن جد"، فقد توارث كرم مهنته وصنعته، ولكنه أوقف قطار التوريث عنده، وقرر قطع دابر مسيرة العائلة في المهنة، "أنا عندي بنت في كلية وابن بيدرس نظم ومعلومات في جامعة بأكتوبر، وابن في مدرسة سياحة وفنادق وآخر بنت في 2 ثانوي"، قرر أن يسلك أبناؤه طرقًا بعيدة عن طريقه "مش عايزهم يتعبوا، عايز أريحهم، الأرزقي شغله غير الموظف، يوم حلو ويومين وحشين، والحمد لله على كل حال".

"الرزق يحب الخفية، وأنا مش هقعد في بيتي حتى لو مش هكسب جنيه"، فالعمل عند عم كرم عبادة، ولا يزال يحتفظ بعدد من زبائنه في التليفزيون والخارجية والقليل من أهالي منطقة مثلث ماسبيرو، "وأهو كله على الله.. وربنا بيرزق".

الجريدة الرسمية
عاجل