رئيس التحرير
عصام كامل

تفاصيل تُنشر لأول مرة عن نجاة ياسر عرفات من الاغتيال في تونس.. يرويها الكاتب الصحفي طاهر الشيخ.. شخصية لبنانية حضرت من فرنسا وأبلغت «أبو عمار» بالغارة الإسرائيلية على «حمام الشط»

ياسر عرفات
ياسر عرفات


ياسر عرفات.. سيرته ليست مجرد كتاب تاريخ تستطيع أن تغلقه بعد الانتهاء من مطالعته وتطوى غلافه استعدادا لوضعه على رف مكتبة الزمان، سنواته في الحياة التي عاشها تحت سماء تغطيها سحب البارود مليئة بالأحداث خلال مشواره في البحث عن استقلال بلاده فلسطين بالبندقية والدبلوماسية، تأبى هي الأخرى عبور جسر الزمان إلى الألفية الثالثة دون الكشف عن المزيد من أسرار أبو عمار.


مجزرة حمام الشط
في الأول من شهر أكتوبر الجارى مرت الذكرى الـ32، على وقائع مجزرة “حمام الشط” عام 1985 في ضاحية حمام الشط جنوب العاصمة التونسية بعدما قامت 8 طائرات من سلاح الجو التابع للاحتلال الإسرائيلى بقصف المقر الرئيسى لمنظمة التحرير في تونس العاصمة للتخلص من ياسر عرفات.

وكانت حكومة الاحتلال الإسرائيلية اتخذت قرارًا بنهاية صيف 1985، بتصفية القيادة الفلسطينية من خلال ضربة تنفذها الطائرات الحربية الإسرائيلية وتكلفت قيادة سلاح الجو الإسرائيلى بالإعداد للتنفيذ، وأطلقت على هذه العملية الخسيسة اسم “الساق الخشبية”.

وحسب التقرير الرسمى للسلطات التونسية إلى الأمين العام “للأمم المتحدة” أدت تلك الغارة إلى سقوط العديد من الشهداء التونسيين والفلسطينيين، مصرع 50 فلسطينيًا و18 مواطنًا تونسيًا وجرح 100 شخص وخسائر مادية قدرت بـ (5،821،485) دينارًا تونسيًا (نحو 8.5 ملايين دولار).
يومها استفاق العالم على خبر قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وانتظرت وسائل الإعلام العربية والعالمية خبرا مقتضبا يؤكد وفاة أبوعمار.

أبوعمار خيب آمال المتشوقين لخبر مقتله، وجفف الدموع في عيون محبيه، وظهر في صورة تاريخية واقفا فوق الركام.. نجاة الزعيم الفلسطينى، نسجت حولها الحكايات ووثقها التاريخ برواية مغلوطة تتبادلها الأجيال حتى الآن مفادها، نجاته من الموت المحقق بسبب توجهه إلى مدينة رادس التونسية لتقديم واجب التعزية إلى عائلة وزير الدفاع التونسى الأسبق عبد الله فرحات في وفاته.

حقيقة النجاة
كغيرى من المواطنين العرب ظللت لأعوام طويلة معتقدا أننى امتلكت الحقيقة كاملة حول هذه المجزرة الدموية، حتى التقيت بالكاتب الصحفى «طاهر الشيخ» عند زيارته لـ«فيتو»، الرجل الذي يحمل في ذاكرته «مخزن أسرار» عن حياة الزعيم أبو عمار، لاقترابه منه شخصيا لأعوام طويلة بسبب طبيعة عمله كصحفى بوكالة «وفا» الفلسطينية، الدموع التي تلألأت في عينيه عند الحديث عن ذكرياته مع عرفات، حملت مدادا لكتابة وقائع جديدة في كتاب التاريخ عن عملية «الساق الخشبية» وسر نجاة الزعيم الفلسطينى من غارة الاحتلال الإسرائيلى على حمام الشط، وأيضا سر الصورة التاريخية لعرفات فوق الركام واسم وجنسية ملتقطها.

الخروج الأول من لبنان
بدأ طاهر الشيخ، حديثه عن محاولة الاغتيال الجوى للزعيم الفلسطيني، انطلاقا من لحظة خروج منظمة التحرير من لبنان عام 1982، بعدما غزت إسرائيل لبنان، وخوفًا من اتساع رقعة الصراع والهيبة التي منحها الحصار لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، حصلت الولايات المتحدة على موافقة جميع الأطراف لوقف إطلاق النار وشروط لانسحاب منظمة التحرير الفلسطينية يوم 12 أغسطس.

وقتها قبل عرفات بالخروج لإنقاذ الدولة اللبنانية، لكنه رفض الانسحاب حاملا الراية البيضاء كشرط وضعه الاحتلال الإسرائيلي، وتمسك بهيبة منظمة التحرير، ويذكر “الشيخ” أنه شخصيا خرج على متن السفينة التي حملت عرفات حاملا سلاحه على كتفه أيضا، وغادر عرفات ورجاله من بيروت في 30 أغسطس 1982، تحت حماية دولية.

هلع الرحلة

ويكمل الشيخ أنه أثناء الرحلة ظهرت على وجهه ملامح التوتر والقلق، ما دفع أبو عمار لسؤاله عن سر قلقه، فأخبره بأنه يخشى المجهول، خاصة أنه ترك طفله في لبنان، ولا يعلم الوجهة القادمة، حينها أخبره الزعيم الراحل أنهم متوجهون إلى فلسطين، الأمر الذي زاد الأمر غرابة لدى “الشيخ”، لكنه فهم قصد أبو عمار من التوجه إلى بلاده، وتحققت نبوءته وعاد بالفعل إلى “رام الله” بعد نحو عقد من الزمان.

الانتقال إلى تونس
يستكمل الشيخ: “انتقل عرفات برجاله من اليونان إلى تونس، كان قد مر على وصولنا إلى تونس قادمين من لبنان بعد الغزو الإسرائيلى نحو ثلاث سنوات، واستيقظت مبكرا لإيصال طفلي إلى مدرسته وتوجهت بعدها إلى مقر عملي في وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” والذي كان يقع في منطقة المنزه السادس (إحدى الضواحى التونسية).

وعند العاشرة من صباح ذلك اليوم سمعنا دويا هائلا وانفجارات متتالية ذكرتنا بما تعرضنا له من قصف متكرر لسلاح الجو الصهيونى في بيروت على مدار 88 يوما من طائرات الـ إف 16 وغيرها، وساد الجو في الوكالة حالة من الوجوم والحذر والتساؤل هل تلاحقنا إسرائيل على بعد آلاف الكيلومترات؟ ولم يمض وقت حتى جاء الجواب: إن الطائرات الحربية الإسرائيلية، قد أغارت على ضاحية حمام الشط، حيث توجد مقرات منظمة التحرير الفلسطينية، وفى مقدمتها منزل ومقر قيادة الزعيم ياسر عرفات والذي تجرى فيه كل الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية.

معلومات العدو
المعلومات الأولية المتوفرة في ذلك الوقت كانت تشير إلى أن هناك اجتماعا مقررا للقيادة العسكرية الفلسطينية برئاسة عرفات في العاشرة من صباح الأول من أكتوبر، وأن سلاح الجو الإسرائيلى قد أغار في ذلك التوقيت بالتحديد، وكان السؤال الأول على لسان الجميع ما مصير أبو عمار؟
كنا في مقر الوكالة في حالة استنفار واستأذنت مدير التحرير في الوكالة في ذلك الوقت سليمان إبراهيم والذي توفى لاحقا في غزة، وتحركت باتجاه منطقة حمام الشط وسط أجواء أمنية متأهبة وإغلاق للطرقات.

وبعد وصولي إلى الطريق الرئيسي لضاحية حمام الشط كان علي أن أوقف سيارتي وأتقدم سيرا على الأقدام أو جريا وقلبي يكاد ينفطر من هول الموقف، ووصلت في وسط زحام شديد لأرى أهم مشهد في حياتي، لقد كان الزعيم أبو عمار يقف فوق الركام والدمار رافعا يديه في إشارة النصر تلك الصورة التاريخية التي التقطها المصور المصري مراد عبد الرؤوف، وبرغم سعادتي بنجاته وحزني على الشهداء والجرحى، إلا أنني لم أنسَ واجبي الصحفي وتحركت في المنطقة بحثا عن هاتف وفي النهاية وجدت ضالتي -تليفون أرضي - ومنه أبلغت مدير التحرير وبصراخ أن “أبو عمار حي”.

خطة التخلص
كان الاحتلال الإسرائيلي، قد قرر التخلص من أبو عمار، بعدما اكتشف بأنه بالرغم من إبعاده عن محيط فلسطين- دول الطوق- فإنه ازداد نشاطه وأصبح يمثل خطرا شديدا عليه، طبعا من وجهة نظر الاحتلال، ولذلك بدأ التحضير لخطة التخلص منه عن طريق قصف مقرات المنظمة في حمام الشط.

ليلة المفاجآت
وفى ليلة 30 سبتمبر كان عرفات في إحدى زياراته الخارجية، وعاد في تلك الليلة إلى تونس، حيث كانت تنتظره سيارته وموكب المرافقة الأمنية الفلسطينية والتونسية، وخرج أبو عمار وركب في سيارته وتحرك الموكب باتجاه حمام الشط، وأبلغ رصد الموساد أن عرفات وصل إلى تونس وتحرك موكبه باتجاه حمام الشط، وبعد دقائق من التحرك.

أثناء تحرك موكب عرفات أبلغه شخص، بأن هناك ضيفا مهما ينتظره في تونس في مقر إقامة سفير فلسطين في ذلك الوقت “حكم بلعاوى”، والذي يقع في ضاحية قمرت، ولذلك أصدر عرفات أوامره بخروج سيارته من الموكب والتوجه إلى قمرت على أن يواصل الموكب طريقه إلى حمام الشط، وبالفعل توجه موكب المرافقة إلى الموقع الذي تم استهدافه لاحقا، حيث سجل الموساد وصوله إلى هناك، فيما كان هو في قمرت حيث اجتمع بالضيف –شخصية لبنانية حضرت من فرنسا لتحذيره- حتى ساعة متأخرة ووقتها اقترح عليه السفير الفلسطينى، أن يقضى ليلته في قمرت وفى الصباح يتوجه إلى حمام الشط ولم ينس عرفات أن يعطى أوامره بتأخير اجتماع المجلس العسكري الأعلى للمنظمة لمدة ساعة أي 11 صباحا بدلا من العاشرة، وذلك لبعد المسافة بين الضاحيتين والتي تقدر بنحو 40 كلم.

تنفيذ العملية
اطمأنت إسرائيل وجهاز الموساد ومجلسها الوزارى المصغر – الكابينيت - الذي أقر العملية، بعدما تيقن من نوم أبو عمار في مقر إقامته بحمام الشط، وتحركت الطائرات الحربية الإسرائيلية باتجاه هدفها في الصباح، حيث كانت تنتظرها طائرات حربية أمريكية ومن بينها طائرات التزود بالوقود والمسماة (بالمرضعات)، والتي أقلعت من القاعدة الأمريكية في صقلية، حيث تمت عملية التزود بالوقود فوق المتوسط وأمام السواحل الإيطالية.

ورصدت الأجهزة الأمنية والعسكرية الإيطالية كل هذا النشاط العسكري وأبلغت رئيس الوزراء الإيطالى في ذلك الوقت «بتينو كراكسى»، والذي قام من فوره بإبلاغ الرئيس التونسى الراحل الحبيب بورقيبة، بأن هناك طائرات حربية إسرائيلية في طريقها إلى تونس، وفور أن وضع الرئيس التونسى سماعة الهاتف كان الطيران الحربى الإسرائيلى المكون من أربع قاذفات وأربع طائرات مقاتلة للحماية في الأجواء التونسية يقوم بعملية القصف الغادرة، بينما كان الزعيم أبو عمار في طريقه من ضاحية قمرت إلى “حمام الشط”، وطلب من السائق بالاستمرار في الطريق بالرغم من تقديره بأن مقراته تتعرض للقصف.

"نقلا عن العدد الورقي"..
الجريدة الرسمية