فشخرة آل ساويرس
وصف البعض مهرجان الجونة السينمائي بمهرجان "الفشخرة"، وقال قائل: ألم يكن من المفيد أن يبني أولاد ساويرس مساكن للفقراء بما أنفقوه على هذا الحدث! وقال آخرون: إن المعوزين في مصر أولى بهذا الإنفاق! وقال فريق ثالث إن هذا البذخ جاء في غير وقته وفي غير موضعه! إذ إن الشارع المصري يئن تحت وطأة الحصار الاقتصادي، خاصة بعد إغراق الجنيه في عملية أطلق عليها مجازا التعويم!! والسؤال: هل كان هناك إنفاق كبير فعلا؟ وهل يمكن وصفه بالفشخرة؟ وهل أولاد ساويرس مغيبون عما يحدث في مصر؟
باعتراف مؤسس المهرجان فعلا تعدى الإنفاق ما كان محسوبا له، وبالفعل قال كل الحضور: إن المهرجان شهد عمليات إنفاق كبيرة بالقياس طبعا لما يحدث في مهرجانات محدودى الدخل الرسمية؟!!
و"الفشخرة "كلمة مصرية قديمة غير عربية اصطلح على التعامل معها بمعنى «"التعالي والتباهي في الفارغ» غير أن ما حدث لم يكن فارغا ولم يكن غير مبرر.. انظر حولك لترى أن مصر ما كان يليق بها أن تبقى هكذا رهينة عدد محدود من مهرجانات السينما التي شاخت وتسربت إليها تجاعيد الزمن، وكبلتها أيادي الحكومة المرتعشة، وقيدت حركتها ميزانيات أشبه بدهانات مباني القاهرة التاريخية بمادة الجير الرخيصة!
وبعيدا عن النظرة الضيقة التي أراد أصحابها من خلالها اللعب على وتر الفقراء والمحتاجين، فإن الأمر كله يصب في صالح مصر، التي لا يجب أن يغيب دورها الثقافي، ولا بد أن تعود لتتبوأ مكانتها التي تليق بها بين الأمم.. وبعيدا عن المعنى الشعبي لمصطلح "الصب" الذي وصل بمفاهيمه الجديدة إلى مغزى يعاقب عليه قانون الآداب، فإن ما حدث كان مصدر فخر لنا جميعا، لو أدركنا أن مصر كانت ثاني أكبر دولة في الإنتاج السينمائي في العالم، عندما كنا نسيطر على محيطنا دون صاروخ، أو مدفع.. فقط بالفن والثقافة وكل أدوات القوة الناعمة.
لقد كانت ولا تزال المنطقة العربية تعاني من بحر الأخبار القادم من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، ونحن في القلب منه، إضافة إلى أن العالم يتعامل مع محيطنا العربي باعتبارنا متلقين فقط، وليس لنا إسهام حضاري يذكر، كما أن صوتنا الثقافي لا يزال خافتا، ورغم فوز أربعة من المصريين بجوائز نوبل فإن محيطنا العربي لا يزال عاجزا عن تقديم ذاته للأمم.
من نتائج مهرجان الفشخرة أن فضائيات العالم التي كانت تتسابق حتى وقت قريب لنقل وقائع صادمة للإرهاب والفوضى والصراعات السياسية، ومعاركنا على لتر بنزين وانقطاع الكهرباء وغياب الأمن..هي ذاتها التي تسابقت والتفت حول السجادة الحمراء لتقول للعالم: إن مصر قادرة على الإسهام الحضارى مهما كانت ظروفها، ومهما قال عنها أعداؤها، ومهما أراد لها خصومها من الداخل أو الخارج.
إن حجم الأخبار الذي انطلق من محافظة البحر الأحمر إلى العالم كان شهادة ميلاد أمنية، وصورة زاهية للاستقرار، ودعوة جادة وغير رسمية للمستثمرين تؤكد أن بلادنا تحملت نيابة عن العالم كله أعباء مواجهة الإرهاب، وكان لابد لها أن تقفز فوق المعاناة لتعبر عن معينها الحضارى الأصلي.. والصور التي تناقلتها وكالات الأنباء أبلغ من حملات التفتيش الأجنبية على مطاراتنا وموانينا.. صور احتفالية ونجوم عالميون يتجولون في المدينة السياحية ويزورون الأهرامات في حرية وأمن وأمان.. هل هناك أبلغ من تلك الرسالة؟!
لقد تفاخرنا عندما فاز فيلم دعائي قصير لا يزيد على الدقيقتين في مسابقة عالمية يشير إلى مناطق الجذب السياحي في بلادنا.. عرضناها وكلفناه مئات الملايين من الدولارات، لنثبت للعالم أن بلادنا تنعم بالأمن، فما بالكم وقنوات العالم ووكالات الأنباء والصحف العالمية والعربية تنقل وقائع مهرجان للسينما في مدينة سياحية خلابة.. إن حجم ماعاد علينا من مهرجان الجونة يساوى أضعاف ما أنفقه أولاد ساويرس، وأضعاف ماعاد علينا مما أنفقناه رسميا على الدعاية بين الشركات العالمية، لنقول فقط إن مصر بلد الأمن والأمان.. إن المستثمر السياحي يدرك حجم العائد الذي جناه هذا القطاع من مهرجان الفشخرة!!
لا أنسى ما كان يردده لى الراحل العظيم الدكتور ممدوح البلتاجي وزير السياحة الأسبق: إن صورة للثقافة المصرية وفيلما مصريا ومهرجانا مصريا أبلغ من كل حملات الدعاية التي نقوم بها بشكل مباشر.. والسؤال: ماذا عاد على الفقراء من مهرجان الجونة السينمائى؟
الفلاح المصري في حقله لم يكن يتصور أن تراجع السياحة سيؤثر عليه، وهو ليس عاملا بفندق، ولا يعمل مترجما ولا مرشدا إلى أن أصيب هذا القطاع بالشلل.. هنا أدرك الفلاح والعامل والتاجر والتلميذ والكاتب والمفكر وسائق التاكسي والسباك والنجار أننا جميعا مستفيدون من تعافي هذا القطاع.. نهوض القطاع السياحي هو نهوض لواحد من أهم القطاعات الاقتصادية، التي تعود بالنفع على الجميع، أضف إلى ذلك أن التلاقي المباشر بين الزائر والشعب، هو أبلغ رسالات الحوار بين الحضارات.
مهرجان الجونة كان حملة دعائية مؤثرة وغير مباشرة، ودعوة للسياحة عبر نجوم عالميين، أصبحوا سفراء لنا بصورهم في أحضان الطبيعة الخلابة، وتحت سفح الأهرامات، وكان ردا قويا على كل قوى الشر التي أرادت لنا أن ننكفئ على كوارثنا ومصائبنا، دون أن نتلمس قدراتنا على المواجهة الثقافية، بعد نجاحنا في المواجهة الأمنية، وانتصارنا في معركة الإرهاب التي أصابتنا بالشلل لسنوات.
وإذا كان ألبير كامو قد قال: "إن الثقافة هي صرخة البشر في وجه مصيرهم" فإن مهرجان الجونة يعد صرخة مدوية، قلنا من خلالها إننا لا نزال قادرين على التعاطي الثقافي وإعادة طرح مصر بوزنها، وقدرات أبنائها على الميديا العالمية بما يليق بها، وليس بما يراد لنا أن نكون عليه.