رئيس التحرير
عصام كامل

عن صاحب أعظم جنازة في تاريخ البشرية!


أشهر مقولات الإمام أحمد بن حنبل قوله "بيننا وبينهم الجنائز" والمقصود باختصار شديد أنها الشهادة الختامية لصاحب الوداع.. فلا سلطان ولا نفوذ.. لا مجاملة له ولا خوف من أي حساب.. حتى أن عمر بن الخطاب وهو في سكرات الموت بعد طعنه يرسل ابنه ليستأذن السيدة عائشة أن يدفن بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت قولها الشهير "والله قد كنت أعددت هذا القبر لنفسي لكني أؤثر به عمر" فيوصي عمر أهله أن يستأذنوها بعد موته مرة أخرى حتى لا يكون قد منعها الحياء أن تقرر ما تشاء!


والأمثلة الشعبية على ما نقول كثيرة.. لا مجال لعرضها.. ومع ذلك لا يخجل خصوم عبد الناصر وصفه بالديكتاتورية! هكذا.. ديكتاتورية! ولم يقولوا لنا أي ديكتاتور هذا الذي تودعه أعظم جنازة في التاريخ؟! كيف من كانوا يحكمهم رغمًا عنهم يودعونه بهذه الحشود الأسطورية؟ تودعه عائلته مثلا! تودعه قريته مثلا! تودعه فئات استفادت منه مثلا! فإذا بمصر كلها وقد أفادها الزعيم الخالد فودعته!

هؤلاء لا يعرفون أن الديكتاتور يحكم الناس قهرًا خوفًا على حكمه.. وقد كان عبد الناصر الأكثر شعبية على الإطلاق في تاريخ حكام مصر.. والديكتاتور هو من يحكم الناس قهرًا من أجل تميز له ولأسرته.. ولم يكن عبد الناصر كذلك على الإطلاق.. والديكتاتور يحكم الناس قهرًا خوفًا على نفوذ طبقي أو عائلي من الضياع أو حماية لأموال وقصور وأراض أو ليبقي الحكم في أولاده ولم يكن عبد الناصر لا هذا ولا ذاك ولا غيره.. إنما الأمر أن الرجل كان يعيد تركيب البناء الاجتماعي والسياسي والثقافي والطبقي في مصر ومعه يكون الجمع مع الديمقراطية بشكلها الغربي مستحيلا.. فأي انتخابات سيفوز فيها أصحاب المال والنفوذ وأبناء الشعب المصري لم يحصلوا وقتها على حقوقهم التي حرموا منها طويلا لكي يستطيعوا المنافسة مع الباشاوات والباكوات.. وامتلاك الصحف لو تم لن يستطيع أبناء الشعب الحقيقيون امتلاكها..

وهكذا فلا كأن ثورة قامت ولا كأن الجيش تحرك لتحرير البلاد والعباد ولذلك نندهش أن نجد أبناء الطبقات البسيطة والوسطى يرددون كلاما "أهبل" عن أن الأفضل إن كان الجيش عاد إلى ثكناته وأجرى انتخابات برلمانية!!

على كل حال.. تسطيح وتزييف وتزوير مريع قام به أعداء ثورة يوليو طوال 45 عامًا ليس من الإخوان فحسب وإنما ممن سمح للإخوان بذلك ولمن تحالف معهم حتى جعلوا المواطن المصري البسيط يردد كلام الإقطاعيين الكبار وأحيانا يردد كلام إسرائيل نفسها عن رجل أراد حمايتهم وأراد لفترة حكمه أن تكون انتقالية يؤسس فيها لحكم أبناء الشعب المصري الحقيقي لنفسه وكان صريحًا وقال إنه يحكم بالشرعية الثورية وليس الشرعية الدستورية! ولذلك الموضوع طويل ويحتاج إلى عشرات المقالات لنفضح الذي فعلوه في وعي الناس..

ما يعنينا اليوم هي تلك الجنازة الأسطورية التي سارت خلف جثمان الزعيم الخالد فقط ـ خلف النعش فقط ـ ما بين 6 إلى 7 ملايين مواطن، فضلا عن جنائز رمزية في كل محافظات ومدن وقرى مصر وكل البلاد العربية وغير العربية.. وصفت "الجارديان" البريطانية في تقريرها الذي أعده كل من هارولد جاكسون وديفيد هيرست جنازة عبدالناصر في الثاني من أكتوبر عام ١٩٧٠ بأنها الجنازة الرسمية المذهلة والأكثر إثارة في العصر الحديث مشيرة إلى أن ملايين المصريين "المتواضعين" خرجوا لتوديع زعيمهم الذي "عبدوه" طوال ١٨ عامًا على حد وصفهم! وكان ذلك في بلد عدد سكانه 30 مليونا ولم يكن تطور وسائل المواصلات ولا الاتصالات كاليوم وبما ييسر على الناس الحشد والترتيب!!

الخلاصة لا يوجد شعب يودع حاكمًا حكمه رغمًا عنه ببحور من الدموع في كل مكان.. ولا يمكن لأي عاقل أن يتصور أن صاحب هذه المواكب كان طاغيًا متجبرًا.. إنما حمي بالحسم البسطاء من شعبه بعد ظلم وحرمان وجوع ومرض تعرضوا له عشرات السنين نعمت فيها طبقة واحدة بكل شيء ولم يكن ليستأذنهم أن يرد الحقوق لأصحابها-وسوف نكتب عن قصة واصل الملكية الخاصة للأراضي الزراعية في مصر مرة أرى ليعرف الناس كيف تشكلت الإقطاعيات الكبيرة وأسبابها وأنها أراضي الفلاحين المصريين ردت إليهم - ولا ليسـتأذن ليعيد الملايين إلى الحياة أو يعيدها إليهم وعاشوا وكبر أولادهم وسافروا للبعثات الحكومية بلا وساطات وعادوا أساتذة جامعة وصاروا سفراء ووزراء وقضاة وضباطا كبارا في جيش بلادهم وشرطتها! صدق ابن حنبل.. بيننا وبينهم الجنائز.. انتهى الكلام.. فهذا خلاصة الأمر كله!
الجريدة الرسمية