رئيس التحرير
عصام كامل

نعم.. لدينا تعذيب


أصل الحكاية أن ماكينة الخارجية المصرية معطلة، وهيئة الاستعلامات لم تتعافَ بعد، ومؤسسة الرئاسة لم يعد فيها أسامة الباز، والمعارضة مغيبة، ومؤسسات المجتمع المدنى معطلة، ومفكرونا اختفوا من على الساحة في ظروف غامضة، ولم تنجب الأحزاب السياسية ممتاز نصار آخر.. كل ذلك أدى بنا إلى أن تنشر منظمة هيومان رايتس ووتش تقريرًا غاضبًا عن حالة التعذيب في مصر على الملأ، ونحن نرد عليها في «حتتنا!!».


هيومان رايتس ووتش واحدة من المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان.. شئنا أم أبينا، تعد تقاريرها مؤثرة للغاية، وسواء كانت تمول من لوبيهات معادية أو لا تمول فإن ما تدونه عن حالة حقوق الإنسان في العالم يصبح ذا شأن فور صدوره، وما دام أنها واقع ضمن أدوات العصر الحديث، وما دام أنها ذات شأن، وما دام أنها مؤثرة فإن الرد عليها لا يكون في برنامج فضائي محلي لا يراه إلا أولاد حارتنا.

رد وزارة الخارجية الذي أرهق نفسه فيه السيد أحمد أبو زيد، المتحدث باسم الخارجية المصرية، عندما تحدث عن تسييس المنظمة وتعمدها العمل ضد الدولة المصرية، إنما جاء ردًا محليًا وبلغة أولاد البلد.. جاء رد «لوكال»، حيث تصور السيد أحمد أبو زيد أن الجمهور المستهدف هم رواد مقهى الفيشاوي، وغرز الحواري، فتحدث بلغة ضعيفة لا تصل إلى أذهان الآخر الذي استهدفنا بتقريره.

أما الصحف المصرية فإنها اختارت الردح المحلي طريقًا للرد، وذلك على شاكلة «اصحى يا منطقة»، وتطور الأمر إلى ظهور مفردات اللمبى هجوما على المنظمة بنت ستين في سبعين.. تقرير هيومان رايتس ووتش قرأه العالم كله، بينما قرأنا نحن الرد خاصة وأن برامج السطح شو قد نزلت المعركة بكل ثقلها بدءا من عنترية البطل الهمام عمرو أديب، وصولا إلى «سرسعة» الفاضلة لميس الحديدي.

والسادة أصحاب رد التيك أواي إنما اجتهدوا في قضية لا يجوز الاجتهاد فيها، وتصوروا وهمًا أن العالم كله «مربوط على مقاعد» متابعة التوك شو المصري بكل ما فيه من عته إعلامي، أما كتاب الصحف الذين كتبوا إنما ظنوا وهمًا أن المنظمة المذكورة ستموت غيظًا مما يكتبون.. أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم يكتب لقراء لا يعرفهم إلا هو، وهؤلاء القراء ليس من بينهم واحد مؤثر فيما تناولته المنظمة المذكورة.

والمدهش أن هناك من يجهز لوفد برلماني لزيارة واشنطن.. هذا الوفد خرج بعض أعضائه على الملأ ليقول إن هذه المنظمة يهودية، متصورًا أنه عندما يقول هذا الكلام في واشنطن، سيجد من يلتقيه أصلا.. ذكرني هؤلاء بالسادة المحامين المصريين الذين ذهبوا للدفاع عن عمر عبد الرحمن، أثناء محاكمته في أمريكا فخرج أحدهم طالبا رد القاضي لأنه يهودي.. اكتشف المحامي أن أمريكا ليس لديها ما يسمى برد القاضي، واكتشف طبعًا أن حكاية اليهود دي مش بتاكل معاهم بالعكس.. كان الرد قاسيًا!!

المثير أن الجمهور الذي تلقى غصبا عنه الرد لم يستفد شيئًا إلا أن هناك منظمة دولية نشرت تقريرا عن التعذيب في مصر.. عرفوا التقرير من الرد ولم يقتنعوا بالرد، فالقصة وبلا لف ولا دوران أننا فعلا لدينا مشكلة في هذا الملف.. نعم لدينا تعذيب، وهذه ليست المشكلة الرئيسية وإنما في تصوري أن القضية الرئيسية هي أن المنظمة قالت إن التعذيب ممنهج، ويتم بقرار من الدولة وهذا غير صحيح.

إذن، كان يجب على السيد وزير الخارجية أن يعقد اجتماعًا لفريق عمل للرد المنطقي على هذا التقرير.. رد نقول فيه: «نعم لدينا مشكلة ولكننا نعمل على مواجهتها».. كان على فريق العمل أن يعد تقريرًا حول حالات التعذيب التي اتخذت فيها مؤسسات الدولة إجراءات من بينها سجن ضباط متورطين في التعذيب، وأفراد شرطة يحاكمون في هذا الملف.. ونذكر وبالأسماء كل من طالتهم يد العدالة في هذا الملف، ومن طالتهم قرارات إدارية من وزارة الداخلية.

المصريون الذين تلقوا ردود السذج من زملائنا الإعلاميين، يعرفون أن في مصر وقائع تعذيب، ومن بينهم من طالته آلة اللا إنسانية، ومن بين أسرهم من طالته يد العسف والغشم والتنكيل، ولذا فإن أهل مكة أدرى بشعابها.. نعم نحن نعرف أن لدينا تعذيبا، ولكننا نصر على أن هذا التعذيب ليس ممنهجا ولا تجرى وقائعه بأوامر من مؤسسات رسمية.. لدينا مشكلات في ملف حقوق الإنسان ونعمل على مواجهتها، والدليل أن مصر الآن ليست مصر في عام ٢٠١٢م.. مصر تتقدم وتحتاج إلى دعم المؤسسات الدولية في هذا الملف.

كان على وزارة الخارجية أن تعلن وبشجاعة أنها ستدرس كل ما جاء في هذا التقرير، وستعد ردًا عليه لأن الدولة المصرية ترفض الصمت على أي تهاون في هذا الملف، ولأن مصر بعد ثورتين يجب أن تكون أكثر رحابة وأكثر إنسانية وأكثر إعمالا للقانون.. كان وكان وكان.. ولكن ما كان في الأيام القليلة الماضية مجرد الرد «الهَتش» على منظمة هيومان ووتش!!
الجريدة الرسمية