معونة بطعم الاستسلام
بعض الذين زفوا إلينا أنباء عن تغييرات في الإدارة الأمريكية عقب فوز السيد ترامب، قالوا فيما قالوا: إن ترامب يختلف عن أوباما، وهذا صحيح، حيث إن ترامب أكثر سخافة من أوباما، وكلاهما أسخف نظام سياسي في الكون.. السيد ترامب رجل أعمال تخرج في مدرسة لا علاقة لها بالسياسة، ولذا فإنه عندما زار منطقة الخليج خاطب الجميع بلغة رجال الأعمال «الدفع أو الحبس».. هكذا كان الرجل سليطًا لم يمنح العرب فرصة الدفع سرًا فكان الدفع علنيا!!
وقالوا فيما قالوا: إن هناك «كيميا بين ترامب والسيسي» وحاول البعض تصوير الأمر على نحو خاطئ، وهو ما أثبتت الأيام عكسه، فالسيد ترامب ليس إلا حلقة في سلسلة صناعة القرار الأمريكي، وربما لا يملك من أمره أن يقرر دخول «التواليت» بقرار مستقل، وقد اتضح ذلك عقب تصريحاته عن دعم قطر للإرهاب، ثم سرعان ما خرجت تصريحات في عكس اتجاهه من الخارجية الأمريكية، ومن وزارة الدفاع، وكلاهما صاحب قرار أمضى وأقوى من قرار الرئيس.
وقرار حجب جزء من المعونة الأمريكية عن مصر لتأديب القاهرة كما زعموا بشأن علاقاتها مع كوريا الشمالية، وأيضا ملف حقوق الإنسان، وبالتحديد ملف مؤسسات المجتمع المدني، إنما جاء هذا القرار ليؤكد أن فكرة الاستقلال الوطنى أو السيادة بمفهومها القديم لم تعد موجودة؛ فالأمريكان يرون أنهم أسياد الكون، ويجب على العالم أن يدور في فلكهم، وبالفعل يدور العالم العربي تحديدا في فلكهم.
دول كثيرة من العالم رفضت الانصياع والدوران مع السيد الأمريكي، غير أن هذه الدول تختلف الإرادة السياسية فيها عن بلادنا، فالمنطقة العربية باستثناءات نادرة يدرك حكامها أنهم يستمدون شرعيتهم من العم سام وليس من قواعد شعبية، الاستثناء هنا نادر جدا؛ فالنظرة العابرة تؤكد أن القادة المنتخبين في محيطنا يعدون على أقل من أصابع اليد الواحدة، أما الباقون فهم نماذج لديكتاتورية اندثرت ولم تعد موجودة إلا بين أسوار العالم العربي.
تصور الأمريكان أن مصر يجب أن تدور في فلكهم هو سيد الموقف، والسيد ترامب ليس سيدا لموقفه هو شخصيا، لذا فإن الحديث عن الكيميا والفيزيا هو بمثابة فهم العمة زكية لنظرية الفيمتو ثانية، ولا مجال هنا لفكرة التفاعلات الكيميائية والحب والعشق والعواطف الجياشة.. وليس شرطا أن تكون غنيًا حتى تصبح مستقلا، فأغنياء العرب مسحولون تحت وطأة الضغوط الأمريكية.
الإرادة الشعبية وحدها هي القادرة على مواجهة الصلف الأمريكي، ولا مجال للحديث عن علاقات ندية وفق طلب العون والمساعدات وغيرها من الملفات التي تورطنا فيما هو أبعد من التبعية، فالسياسة تحكمها المصالح ولا شيء غير المصالح، لا مجال للعواطف ولا للوعود، فقد وقفت مصر في وجه أمريكا والعالم الغربي، عندما كانت تمتلك شرعية ثورية وتحررية وشعبية، وتحمل الشعب نتائج هذه المواقف ولم يهزم، فهل نحن قادرون اليوم على مواجهة الجبروت الأمريكي؟
الواقع يشير إلى أننا ما زلنا نفتقد الثقة في النفس والقدرة على الرفض أو المقاومة، خاصة أن مصنع السياسة متوقف لأسباب فنية في الداخل، ولا يزال النداء المتعالى «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» أيا كانت هذه المعركة، وسواء كانت معركتنا مع الإرهاب أو إعادة تماسك مؤسسات الدولة، أو ما يطرح حول فوبيا الفوضى أو الخوف من تفكك البلاد، وانتقال النموذج السوري أو الليبي للداخل المصري، فإن الأمر بحاجة أكثر إلى إعادة الروح للحياة السياسية لوأد الفتنة.
لم يعد خافيا على أحد أن فكرة الإدارة بالتوجيه، ونحن نرى ما لا يراه الآخرون، مع استبعاد اللحمة الشعبية في أي معركة، من شأنه أن يحقق أهداف العدو فينا دون أن ندرى، اللحمة الشعبية والالتفاف الجماهيري والوعي بما يحاك لنا يفرض علينا أن نتيح الفرصة لأصوات أخرى تعبر عن رؤاها، فيما نمر به من تحديات ومعارك، خاصة أننا لا نزال حتى الآن غارقين في مشروعات بنى تحتية لن تضيف إلى الإنتاج، ولن تصنع أملا حقيقيا أمام الأجيال الجديدة.
تماسك الداخل هو عنصر القوة في التفاوض مع الخارج أيا كانت قوته، فالدول التي تحظى بتوافق داخلى وصلابة اجتماعية تصبح لديها القدرة على فرض شروطها، باعتبارها معبر عن إرادة شعبية حقيقية قادرة على تحمل تبعات القرار، حتى لو كان هذا القرار إعلان الاستقلال التام، ورفض إملاءات أمريكا أو غيرها من القوى المهيمنة على مقاليد الأمور في عالمنا المعاصر، أما غير ذلك فإننا سنظل ندور في فلك معونة الاستسلام!!