رئيس التحرير
عصام كامل

الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله : مستويات توزيع كتبي استثنائية وانتشارها بين الشباب يسعدني

فيتو

  • الصحافة الخطر الأكبر على الكاتب.. والكتابة دون خيال جثة محنطة
  • تناولت المجهول في فلسطين لمواجهة من يعتقد أنه يعرفها جيدا
  • نستخدم الخيال لفهم الواقع.. وكتبت الحاضر بجرأة مجنونة ورحلت إلى المستقبل دون خوف من التاريخ
  • بعض الكتابات تحتاج لبحث يستمر سنوات طويلة وبعضها يمكن أن تجده داخلك
  • تحدثت عن «داعش» في رواية «حرب الكلب الثانية» دون ذكر اسمها
  • الجوائز الأدبية لا تعترف بالشفافية ولحسن الحظ عدم منحها لا يؤثر فى انتشار كاتب
  • تعاملت مع الموت كما تعامل معه الفكر البشري كقضية كبرى بعيدا عما يروّجه الإعلام الساذج
  • قوة الكتابة تكمن في أن تكون فنا مؤثرا عابرا لتحولات الذائقة والأسئلة المطروحة عبر الزمن
  • لو لم أكن روائيا كنت أفضل أن أكون موسيقيا وملحنا بالتأكيد


يبقى هؤلاء الذين فتحوا أعينهم على الدنيا فوجدوا أنفسهم في غربة أبدية الأكثر شعورا بقيمة الوطن، «منفى» جعلهم يجادلون حمقى دفاعا عن وطن لم يروه، «غربة» تستفزهم للكتابة أكثر، يدسون أنفسهم تحت «ورقة»، يتسللون بخفة لرسم بيت وأرض وبحر وعلم، يخترعون وطنا على ورق.

الشاعر والروائي الفلسطيني الكبير، إبراهيم نصر الله، واحد من الذين يستمعون جيدا لوقع ضربات السياط على ظهر الوطن.. يضع يده في كل جيوب«الغربة»، يبحث فيها عن مفردة«وطن»، ليكتشف– في كل مرات البحث- أن جيوب الغربة «مثقوبة» وخاوية على عروشها.

«نصر الله».. يحمل على كتفيه 64 عاما من «غربة المنفى»، مثقل بحكايات الرحيل.. فمنذ لحظة الميلاد في الأردن، عام 1954 من أبوين فلسطينيين، هجرا أرضهما عام 1948م، ودرس في مخيم الوحدات، ورحل إلى السعودية ليعمل مدرسا، ثم عاد إلى الأردن ليشتغل بالصحافة، وهو يمسك بـ"قطعة حديد" يطرقها على شكل خريطة للوطن.

ظل «نصر الله» صامتًا طوال الرحلة، مأخوذًا بإحساس غريب يدفعه إلى كتابة شيء ما، بشوق غريب لورقة بيضاء، لقلم، وصمت أكثر عمقا، لوحدة، دائما يشعر بشيء يتحرك في أعماقه، كلمات.. وكلمات غامضة، لها معناها الأوضح من الشمس، وحدها التي يريد قولها، كتابتها، فتح باب جسده وإطلاقها، الركض خلفها، اللعب معها. 

«فلسطين» عند إبراهيم نصر الله، هي القلب كله، لا شيء فيها بعيد، ولا شيء فيها غريب، من طينها يدهن «الخد» كي يتورد ويباهي القمر لحظة تمامه، يرى اللعب مع الموت لا ينقطع أبدا حين تكون أسير رتابة حياتك، أما حين تخرج عن هذه الرتابة فأنت تعانق الحياة وتتمسك بها أكثر.

لا يريد «نصر الله»، أن يموت في «المنفى»، فيقول: «لا أريد أن أبعث يوم القيامة في أي منفى، لأنني سأكون مضطرا أن أسير طويلا إلى وطني».

انتهى «نصر الله» قبيل إجراء الحوار معه على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، من عمل جديد، لم يكشف عن تفاصيله بعد، لم يحدد إن كان ديوان شعر، أم عملا روائيا، ومن هنا سألناه إبراهيم نصر الله شاعر وروائي.. أيهما يطغى على تفاصيلك أكثر؟ فأجاب: «ما يطغى على تفاصيلي هو القضايا والأسئلة الأكثر إلحاحا عليَّ ككاتب وإنسان، ولذا، قد تجد مساحتها في الشعر، أو في الرواية، أو أحيانا في مقال».

«نصر الله» الذي اشتغل في الصحافة 18 عاما، يرى أنها أكبر خطر على الكاتب، من وظائف كثيرة لأنها بحاجة للكلمة كي تكون، توقفت عند كلماته وسألته: «كيف حصنت نفسك منها وعشت على هامش الصحافة دون أن تتورط.. وكيف أسهم ذلك في غزارة منتجك الأدبي؟ فأجاب «الصحافة في ظني مشكلة كبيرة، وهي بالتأكيد أخطر بالنسبة للكاتب من وظائف كثيرة، لأنها بحاجة للكلمة كي تكون، لذا فهي منافسة للكتابة ومشروع الكتابة، كما أنها لصيقة عمومًا بالسلطة في عالمنا العربي. 

وهكذا حين تعمل فيها فإن كتابتك تكون مهددة بها؛ لأنها تمتص الطاقة وتمتص قوتها التعبيرية، كما أنك تكون في تماس يومي مع السلطة، واحتمالات الاصطدام معها، ثم إنها كأي مهنة قد تكون مغرية لتحقيق مكانة أعلى في سلالمها، بالنسبة لي لم يكن لي طموح وظيفي، ولا طموح الانتشار كصحفي، وبالتالي لم أتورط بكتابة يومية أو أسبوعية، وبقيت على هامشها، هي لم تساعد في الغزارة، كل ما حدث أنني قمت بحماية مشروعي الأدبي أثناء ممارستي لها».

من محطة الصحافة انتقلت مع «نصرالله» إلى محطته المفضلة.. الرواية، وتحديدا روايته «حرب الكلب الثانية»، التي ربما تكون مزيجا بين الخيال الاجتماعي والعلمي، فقلت له: ترى كيف يمكن أن يعبر الخيال عن الواقع.. وهل في الخيال ثمة شفاء من أمراض الواقع.. أو ليس الخيال هروبا من مواجهة مؤجلة؟!

فقال: «من المفارقات أننا في العالم العربي، وسواه، ككتاب، لا نهرب من الواقع بالخيال، بل نستخدم الخيال لفهم الواقع، والخيال هنا يمكن وصفه بـ"دم الكتابة"، فكل كتابة بلا خيال كتابة موميائية، محنطة، مثل الجثة التي ليست هي الإنسان الذي عاش فيها».

استخلصت من حديثه أن الرواية أكثر تأثيرا من كل كتب التاريخ، «نبشت» داخله لمعرفة الرواية التي يعتبرها أشد تأثيرا من جميع أعماله، فقال: «ليست هناك رواية يمكن أن أحسم بأنها الأكثر تأثيرا، فهناك مجموعة روايات لمستُ على مدى السنوات أنها ذات تأثير في القراء، بعضها على المستوى الفني، بعضها على المستوى السياسي، الاجتماعي، ثم التاريخي، مثل مشروع الملهاة الفلسطينية الذي يتأمل 250 عاما من تاريخ فلسطين إنسانيا وثقافيا وحضاريا وجماليا وسياسيا.. ومشروع الشرفات، وأعمال شعرية أعتبرها جزءا من الملهاة الفلسطينية مثل: بسم الأم والابن، مرايا الملائكة، الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق... وكثير غيرها».

اعترف «نصر الله» أنه شجاع.. يحب المغامرة، لا يخشى من منطقة في التاريخ، يغازل الحاضر والماضي بجنون، حيث قال: «أبدا لا أخشى التاريخ.. لقد كتبت عن الحاضر بجرأة مجنونة، وتأملت الماضي برؤية نقدية، ورحلت إلى المستقبل، في روايتي الأخيرة (حرب الكلب الثانية)، كل ما أحسست بأنه يجب أن يُكتب، كتبته، وهذا سبَّب لي كثيرا من المشكلات، مثل منع الأمسيات، والمنع من السفر لسنوات طويل، ومصادرة بعض كتبي».

تناول الروائي الفلسطيني فترات تاريخية طويلة في «قناديل ملك الجليل»، و«زمن الخيول البيضاء»، وهو ما تطلب منه جهدا كبيرا، ويرى أن إعادة السرد كما يسرده المؤرخون هو السقوط بعينه: «أن تكتب عن فترات طويلة فإن ذلك يعني أن تعرف الكثير عنها، وهذا يحتاج إلى جهد كبير، وأحيانا تتكون هناك مكتبة خاصة بالرواية التي تكتبها، أما متى يسقط الروائي في اختبار التاريخ فذلك حينما يعيد سرده كما سرده المؤرخون، ويسقط حينما لا تكون له رؤيته الخاصة في ذلك التاريخ، وعندما لا يستطيع أن يقدم مساهمته الفنية فيما يسمى الرواية التاريخية».

سبق أن قال «نصرالله»، إن «أصعب ما في كتابة الحكاية الفلسطينية هو أن عليك أن تكون ضد الذاكرة الجاهزة»، فسألته كيف تغلبت على ذلك؟الذاكرة الجاهزة هي الذاكرة المتداولة، المشتركة، التي يتقاسمها الجميع، وهناك أشياء كثيرة استقرت في الذاكرة الجاهزة لا أساس لها، أو أنها كالمشهد الواسع للصورة الفوتوغرافية، الذي لا يتيح لك مشاهدة أي نوع من التفاصيل، وقد كتبت لأقول لمن يعتقد أنه يعرف فلسطين جيدا، بأنه لم يكن يعرفها، من خلال ما تم طرحه من مساحات مجهولة فيها، وهذا هو تحدي الكتابة في كل مكان.

من يقرأ «أرواح كليمنجارو» من السهل أن يرى متعة «إبراهيم نصرالله» في كتابة الرواية متعددة الشخصيات على مستوى اللغة والدين والأفكار والجنسيات.. وقد يطرح سؤالا مهما هو ألا يضع الكاتب أمامه القارئ -خاصة الشباب الذين يفضلون البساطة، والتي قد تكون مثل هذه الروايات معقد بالنسبة لهم، أما هو فيقول «أن تتعدد، فإن ذلك يعني أن تتجدد، ككاتب وإنسان، ومن لا يتنوع يتكلّس داخل تجربته. ليست لدى مشكلة مع قرائي، فأنا أكتب لقارئ يقرأ، ومستويات توزيع كتبي استثنائية، وانتشارها بين الشباب بشكل خاص أمر يدعو للفرح، لأنني أرى أنهم النسبة الأعلى من قرائي.

قلت: كيف يكتب إبراهيم نصر الله رواياته؟ وما دور الكتابة في زمن يتسم بتشوهات كثيرة.. فالدماء في كل مكان.. حيث الحروب الطائفية.. «داعش» يتوغل في مجتمعات كثيرة فكرا وفعلا؟

قال: «كل رواية جديدة، كما كل عمل شعري، لها/ له قوانينه التي يفرضها، بعض الكتابات تحتاج لبحث يستمر سنوات طويلة، وبعضها يمكن أن تجده داخلك، لكنني لم أكتب رواية لم أفكر فيها خمس سنوات على الأقل، وأضع ملاحظات وأفكارا حولها وحول شخصياتها وأحداثها، والأفكار الروائية التي أعمل عليها دائما متعددة، إنها أشبه بالخيول في مضمار السباق، من تصل خط النهاية أكتبها أولا، وأحيانا أعتبر نفسي كالمزارع، يزرع عدة أشجار والشجرة التي تنضج أولا يأكل من ثمارها.

أما الوضع العام بما فيه، فهو موجود في داخل كل عمل أكتبه، حتى (داعش) ومثيلاتها، فقد حضرت بقوة في (حرب الكلب الثانية) رغم أن اسم داعش لا يرد في الرواية أبدا.

سألته: برأيك هل ترى أن الرواية تتخطى حدود التاريخ.. وما الخطوط الفاصلة بين الكتابة الروائية والتوثيق؟
فقال: الكتابة هي فن أولا وأخيرا، وإن لم تكن فنا فإنها ليست رواية وليست تاريخا.
قلت له: حصلت مؤخرا على جائزة «كتارا».. من وجهة نظرك إلى أي مدى تصنع الجوائز روائيا وتطور تجربته.. وهل تتفق مع القائلين بوجود تلاعب في الجوائز أو أنها تخضع لاعتبارات سياسية؟
- المشكلات في الجوائز العربية قائمة دائما، ولكن ما أقدّره في كتارا أن المحكمين لا يعرف الواحد منهما الآخر، ويرسلون تقاريرهم، ثم يلتقون يوم توزيع الجائزة، لذا فهي بعيدة عن لعبة الكواليس عموما.. هناك جوائز قررت أن تستبعد الأسماء المكرمة مثلا، وهناك جوائز يجرى إعلان القائمة الطويلة فيها استنادًا لأسماء الكُتّاب، وخلال جلسة واحدة استنادا إلى قوائم الأسماء.. في العالم العربي لا يمكن أن يكون هناك شفافية في أغلبية الجوائز، ولحسن الحظ أن عدم منحها لا يؤثر فى انتشار كاتب، ومنحها لا يضمن بقاءه في عالم القراء والكتابة أحيانا سوى عدة أشهر.

الموت كان السمة الأبرز في روايات «إبراهيم نصرالله»، خاصة في تناوله للحالات التي يعيشها الإنسان الفلسطيني.. وتعامل معه باعتباره الحقيقة التي لا يمكن تغييرها أبدا: «تعاملت مع الموت، كما تعامل معه الفكر البشري، كقضية كبرى، بعيدا عما يروّجه الإعلام الساذج عن أم تزغرد في جنازة ابنها، أو طفل يرفع إشارة النصر، فهؤلاء سيعودون إلى بيوتهم وما إن يصبحوا وحدهم حتى يبدأ بكاء لن ينتهي أبدا».

ابتعدت قليلا عن تجربته الشخصية لأسأله.. أين تقف الرواية العربية اليوم.. وهل الرواية الفلسطينية عبرت عن واقع المجتمع بالشكل الكافي؟
أجاب: «لا أحد يستطيع أن يعبر عن كل الواقع.. كل هؤلاء الكتاب يحاولون، إننا نعبّر عن أجزاء من الواقع، بعضنا يعبّر بصورة محدودة وبعضنا يعبّر بصورة أوسع، لكن قوة الكتابة لا تكمن في حديثها عن الواقعي أو اللا واقعي، قوتها في أن تكون فنا مؤثرا عابرا "لتحولات الذائقة" والأسئلة المطروحة عبر الزمن».

سألته: لماذا اختار أدباء فلسطين حياة المنفى؟
- لم يختر أحد المنفى، المنفى فُرِض علينا، وكل ما نفعله أننا نحاول نفيه بالعودة.

ولماذا أبحر أدباء فلسطين في فلسطين الماضي.. دون التطرق إلى فلسطين الحاضر؟
- فلسطين بأزماتها الثلاث حاضرة في الكتابة، والحاضر له المساحة الأكبر في ظني.

تحدثت معه عن الإبداع في القاهرة، والذي من وجهة نظري أنه جف، فقال: «لا يجف الإبداع في أي مكان، الإبداع قوة كامنة كالبذرة، وحينما تكتمل الظروف الملائمة للنمو يظهر، ولكنني أرى أن هناك تجارب رائعة كثيرة ومتنوعة».

الأحلام هي الأخرى كانت حاضرة في الحديث.. حيث سألته ما الحلم الذي فشل إبراهيم نصر الله في تحقيقه؟ ليجيب: المسألة ليست متعلقة بالفشل، لكنها متعلقة بوجود العمر الكافي لإنجاز المشاريع التي أفكر فيها.. كنت أفكر -مثلا- وباستمرار، في عمل شعري أوبرالي، لكن ذلك لم يتحقق إلا في العامين الأخيرين، حين كتبت ديواني الأخير (الحب شرير) وضم عملا بعنوان (أوبرا الذئاب) يتشكل من 24 قصيدة تسرد حكاية حب بين ذئب وذئبة ممتلئة بأسئلة الحب، الحياة، الحرية، الموت، والاختيار.

أنهيت الحوار مع نصر الله.. بسؤال تقليدى.. حيث سألته إذا لم تكن شاعرا وروائيا.. أي مهنة كنت تفضل؟ ليجيب إجابة تؤكد أنه كان سيختار طريق الإبداع، حيث قال: كنت أفضل أن أكون موسيقيا، وملحنا بالتأكيد، وقد حققت مؤخرا بعضا من هذه الأمنية في الألحان التي تم غناؤها، وأخرى على وشك الظهور.

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"..
الجريدة الرسمية