رئيس التحرير
عصام كامل

جريمة لا تغتفر


"مليونية تطهير القضاء" دعوة خاطئة فى المكان والتوقيت الخطأ، كان الأولى أن تكون مليونية لدعم وتعزيز استقلال القضاء، وهو مطلب قديم ننادى به جميعا، أما دعوة «تطهير القضاء» هى دعوة حق يراد بها باطل.

فنحن نعلم جميعا أن مؤسسة القضاء ربما تكون المؤسسة الوحيدة التى تطهر نفسها بنفسها، أما مليونية تطهير القضاء كان القصد منها إرهاب القضاء المصرى بكل المقاييس، كانت مليونية هادمة لمؤسسة العدالة أساءت لصورة مصر فى الخارج، كانت مقدمة لمذبحة تدبر للقضاة إذا ما تم خفض سن التقاعد إلى ٦٠ سنة.

يجب أن يعرف الجميع، أن القضاء لن يسمح لأحد أو فصيل أن يكون «طيعة» له، وسوف يستمر حامى الحقوق والحريات.

استقلال القضاء مطلبنا جميعا وأولى خطواته هى نقل التفتيش القضائى وكل ما يتصل بشئون القضاء من وزارة العدل إلى المجلس الأعلى للقضاء.

إرهاب القضاة أمر مرفوض وهدم القضاء سيدخلنا فى فوضى لا نعرف مداها، وهى بلا شك "جريمة لا تغتفر".

ملحوظة: أعيد نشر هذا المقال الذى نشرته فى هذا المكان منذ شهور قليلة عن الهجوم على القضاء لعل الذكرى تنفع المؤمنين..

بينما كانت الحرب العالمية فى أوج اشتعالها، وكانت العاصمة البريطانية تتعرض لقصف الطائرات الألمانية كل دقيقة، فوجئ ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، بحكم صادر من إحدى المحاكم البريطانية يلزم حكومته بإغلاق أحد المطارات الحربية وإيقاف العمل به لأنه يتسبب فى إزعاج المصلين بإحدى الكنائس القريبة من المطار..

طبعا لو كان تشرشل رئيسا للوزراء فى مصر لرفض على الفور تنفيذ حكم المحكمة أو ألقى القبض على القاضى الذى أصدر هذا الحكم العجيب فى وقت الحرب التى تقرر مصير بريطانيا، لكن تشرشل -ومن حسن حظ الرجل- كان رئيسا لوزراء بريطانيا التى يعرف المسئولون فيها كيف يحترمون القانون.
استجاب تشرشل على الفور لحكم المحكمة وقام بإغلاق المطار قائلا: "من الأفضل لإنجلترا أن تخسر الحرب ويقال إنها دولة تحترم القانون، من أن تكسب الحرب وهى دولة لا يحترم فيها القانون"!

أذكر وأعيد هذه القصة وأنا أشاهد فصول الحرب الدائرة الآن على السلطة القضائية عندنا، والتى وصلت ذروتها بعد الإعلان الدستورى الجديد وما فيه من اعتداء واضح على سلطة القضاء والقانون.

الهجوم على القضاء لم يكن وليد اليوم بل بدأ بقوة داخل مجلس الشعب قبل حله، عندما طالب الأعضاء بتطهير القضاء وهددوه بمذبحة جديدة يستعملون فيها سكين القانون والتشريع، بسلب السلطة القضائية الكثير من السلطات التى توفر لها الحماية والاستقلال اللازم لأداء دورها فى تحقيق العدالة وسيادة القانون، ولكن "نادى القضاة" تصدى لهذه الحملة المسعورة وأوقفها فى حينها.

ولا أعرف لماذا كل هذه الحرب على السلطة القضائية، ولماذا خرج هذا الإعلان الدستورى بهذه الصورة وأدى إلى انقسام أبناء الوطن الواحد وسلب بعض اختصاصات السلطة القضائية وألغى أحكامها فى وقت تحتاج فيه البلاد إلى الوحدة والتوافق للخروج من أزمتها الطاحنة التى باتت تهدد المستقبل بالفوضى والارتباك، ولن يتأتى لنا ذلك إلا باحترام أحكام القضاء واستقلاله لأنه الاختيار الوحيد لعبور الوطن نحو الاستقرار والتهدئة وأن تكون وجهتنا جميعا نحو المستقبل والمصلحة العليا للوطن.

التطاول على القضاء بأى صورة من الصور مرفوض والعمل على استقلاله واجبنا جميعا وفرض عين علينا.
قضاء مصر شامخ، وسينتصر على كل من يعاديه، كما ينتصر دائما للمظلومين وأصحاب الحق.

لقد وصف تيار استقلال القضاء الإعلان الدستورى بأنه تقويض لاستقلال القضاء وضماناته التى هى ضمانات للأمة وحريات أبنائها بل إهدار لقيمة الأحكام القضائية وطالب الرئيس بإلغاء الإعلان.

فالقضاء هو ضمير الأمة وحصن حريتها وملاذ للمظلومين فيها، وأن الحفاظ على استقلال القضاء هو بداية تحقيق دولة ديمقراطية حقيقية تحترم سيادة القانون.

القضاة دائما وأبدا عند حسن الظن فيهم وقفوا داعمين لقضايا الحريات ومنادين بانتخابات حرة نزيهة، وأخيرا هل نتعلم من درس تشرشل؟ نتمنى.

ولكن تبقى تداعيات أزمة الإعلان الدستورى، والدستور الجديد، والاعتداء الغاشم على المحكمة الدستورية العليا، والذى لم يحاكم من ارتكبوه حتى الآن.

وتبقى مع كل ذلك المليونيات هنا وهناك، فهل من حل قريب قبل أن تعم الفوضى فى وقت نحن فى أشد الحاجة إلى الاستقرار وانطلاق عجلة الإنتاج والتوحد وليس الانقسام الذى عم كل فئات المجتمع، بالتأكيد إن الحل عند مؤسسة الرئاسة.
الجريدة الرسمية