الكبيران
مليارات البشر دخلوها من ثقب الولادة، وخرجوا من بوابة الموت دون أثر يذكر، وقليلون هم من دخلوها من بوابة الحياة، وتركوا فيها ما جعل أعمارهم تتضاعف بحكم إرث إنساني انتفعت به البشرية، وأحسب أننا أمام اثنين ممن فارقونا بالجسد دون أن تبرح مواقفهم الإنسانية موضعها بين البشر، أولهما المفكر العربي رفعت السعيد، وثانيهما الأديب المتأدب والكاتب المنمق محفوظ عبد الرحمن.
لم يكن رفعت السعيد مجرد سياسي ملتزم طوال حياته بمنهج صلب وجامد، بل تعدى ذلك إلى مرحلة التحرك وفق ذات إنسانية تعرف قدر الانضباط الفكري المرتبط بمجتمع يعج بالمشكلات، فكان رغم يساريته المعروفة واحدًا ممن أبلوا بلاء حسنًا في الدفاع عن جوهر الدين، بإطلاق المصطلح اللوذعى على جماعة الإخوان الإرهابية والتعبير عنهم بـ«المتأسلمين» أي إن الرجل كان يرى أن الإسلام أعظم من فكرة حبسه داخل علبة المرشد، وتابوت الطاعة العمياء دون تدبر حقيقي، فيما يمكن أن يكون من وظيفة راقية للدين في خدمة المجتمع.
ومع بدء ثمانينيات القرن الماضي، وترك الحبل على الغارب لتيارات الإسلام السياسي، وسيطرتهم على جامعات مصر بإرادة من صانع القرار السياسي، كان رفعت السعيد صاحب دور البطولة في مواجهة هذا الخطر الداهم على بنية المجتمع المصري، ودينه المعتدل، ووفاقه بين عنصري الأمة، وتحمل وحده عبء التحذير بالدليل والبرهان، حتى جاء اغتيال السادات معبرًا عن حجم هذا الخطر الذي كثيرا ما حذر منه السعيد.
ومع توالي الأيام.. وعندما غازل البعض هذه التيارات، وعندما بدأت التهديدات تطال جبهة المثقفين، وعندما وصل الإرهاب الأعمى إلى رأس الدكتور فرج فودة لم يتراجع الرجل عن دوره، ولم يعتكف بعيدا عن قضايا مجتمعه، ولم يضعف أمام جبروته وتغوله داخل المجتمع، بل راح يصول ويجول من خلال حزب التجمع الذي ارتبط اسمه بروح الفقيد، فلم يفقد بوصلته كما حدث مع أحزاب بدأت الطريق اشتراكية، وانتهت تحت سيطرة الإخوان ورفاقهم، مثلما حدث مع حزب العمل على سبيل المثال.
ولأن رفعت السعيد كان أكثر استيعابًا لفكرة الدين وروحه ودوره، فقد ظل طوال حياته مدافعًا عن الوحدة الوطنية، من خلال مؤلفاته التي جابت الأرض، وعبرت الحدود، وأصبحت مرجعية لكل من أراد للإنسانية الرقي والتطور، وظل قلمه ومواقفه السياسية والحزبية معبرين أصيلين وسلاحين مشهرين في وجه الرجعية التي زادت حدتها مع سبعينيات القرن الماضي، ودخول النمط الإسلامى المتشدد عابرا من الخليج إلى أرض الكنانة.
ظل رفعت السعيد مصريًا خالصًا لم تشوبه شائبة التلون، ولم تصبه آفة الانسحاب، ظل في أول الصف، وعندما تراجعت الدولة خالفها ووقف ضد رغبتها في استخدام هذا التيار لصنع استقرار مزيف، عانينا جميعا من ويلاته بعد ثورة ٢٥ يناير، فأثبت التاريخ أن وقوف الرجل في الصفوف الأولى إنما كان نابعا من رؤية ثاقبة وفكر صحيح وأيديولوجية تعرف طريقها مهما كانت الظروف المحيطة.
لأسباب كثيرة كانت ولا تزال جماعة الإخوان تكره السعيد، وكل سعيد في مصر، إذ كان الرجل بمثابة رأس حربة في مواجهة أطماعهم في السيطرة على مصر، وتغيير هويتها، لتصبح طيعة في أيديهم، وكيف تكون طيعة لهم، وبيننا واحد في حجم رفعت السعيد، الذي آثر أن يضرب مثلا في الحياة الحزبية المصرية بأن توارى خلف الشباب، وأصبح أبا روحيًا لليسار كله، وليس لحزب التجمع عندما اختارت قواعد الحزب شخصية غيره لقيادة المرحلة.
وكان للسعيد موقف واضح من الشباب- أي شباب- سواء من ينتمون إلى مدرسته أو إلى أي مدرسة أخرى تخالفه الرأي، فمازلت أذكر عندما أبلغتني الزميلة إيمان مأمون المشرفة في ذلك الوقت على صالون "فيتو"، بأن المفكر الكبير رفعت السعيد وافق على تشريفنا في الصالون.. انتظرناه أمام المقر، وصعدنا به، وكنت مشفقا عليه من رحلة صيفية قاسية في شوارع القاهرة بزحامها وتلوثها وغباء مرورها، فمثل رفعت السعيد لا بد وأن يقصد أينما كان مكانه.
جاء الرجل، وكم كان متواضعًا، وكم كان رقيقًا، وكم كان واسعَ البال، وهو يتلقى بترحاب أسئلة ربما لا تليق بحجمه، وقدراته، وتاريخه، وظل معنا لساعات طوال، يجيب ويشرح بروح شبابية لا تعبر أبدا عن رحلة العمر الطويلة التي عانى خلالها من ويلات حروب القلم، والسلطة، والجهل.. رحم الله رجلا عاش حياته يعتقد فيما يطرح من أفكار، وظل حتى الرمق الأخير مصريا حتى النخاع.
الكبير الثاني الذي فقدته الأمة العربية في نفس الأسبوع تقريبا، هو الراحل الأديب المتأدب والكاتب والباحث في التراث محفوظ عبد الرحمن، وهو الذي عاش حياته باحثا عن شعاع نور، عن أمل، عن يوم تاريخى خالد في حياة البشرية، عن قيمة إنسانية راقية في بوابة الحلواني، وباحثا عن المجهول، وعابرا بين أزقة وشوارع وميادين غرناطة في ليلة سقوطها، وغواصا خارجا من محيط التاريخ بلؤلؤة سليمان الحلبي.
ورغم أنه عايش وعايشنا معه في تحفته الأدبية أربعة فصول شتاء إلا أنه غادرنا في ليلة صيفية قاسية وحارة، بعد أن قدم اليوم الثامن وعاش رحلات السندباد البحرى بطلاقة، وجسد لنا في كتاباته الحامي والحرامي، وقدم لنا واحدة من أبدع لحظات التاريخ المصري في ناصر ٥٦، وغمرنا في رومانسية لامتناهية في حليم، ولم يبرح دنيانا قبل أن يغوص في أعماق بلقيس، هكذا ترك لنا ٣٥ عملا دراميا ستظل جزءا من تاريخنا وتاريخ الرجل.
ولم يكن محفوظ عبد الرحمن ممتهنا القلم، بل ظل طوال حياته حامل رسالة وصاحب طريقة.. يختفى كثيرا ولكن مع ظهوره يكون صيده هو الأعظم والأكثر أثرا في النفوس، فقدم للأدب العربي والسينما العربية أروع الأعمال وأخلدها، ولم يكن ما قدمه للمسرح أقل أثرا من تلك الأعمال الدرامية المهمة.. رحمة الله على روادنا الذين عاشوا الحياة من أجل أمتهم وإنسانيتهم ورسالاتهم.