محاكمة القتيل
آفــة من سبقونا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف سحلوه وقتلوه ومثَّلوا به وأقاموا عليه قانون القوي ضد الضعيف.. أما إذا تورط أحد الكبار فإن الكبار يتدخلون لرفع الغمة عن أخينا المتورط بالدليل والبرهان.. ويبدو أن آفة السابقين لا تزال بيننا والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، والعد حساب بينما الإحصاء فهم.. المهم أن ما أقوله هنا ويعرفه الجميع كان موضوع محادثة هاتفية بينى وبين سائق قطار.
يقول السائق إنه يودع أهله كل يوم قبل أن يشارك في حفل الانتحار اليومى على قضبان السكة الحديد.. إذ أنه يرى أن "شوية الصفيح" التي تمتلكها مصر وتطلق عليها مجازًا سكك حديد مصر "جابت آخرها"؛ ولأنها "جابت آخرها" فإنه وزملاءه يودعون أسرهم كل يوم للمشاركة في مغامرة غير محسوبة ولعبة غير مضمونة مع الموت المحقق.. فالفوضى والجهل والتخلف كلها واقع يعرفه السادة المسئولــون الذين يتولون إدارة الأمور.
والسائق في السكة الحديد أو المغامر بعمره ومستقبل أولاده يتقاضى ما بين ثلاثة آلاف جنيه وأربعة آلاف، بينما السادة ساكنــو المكاتب المكيفة يصل راتب الواحد منهم إلى سبعين ألف جنيه، رغم أنه مجرد "مُشاهِد" للموت دون المشاركة، بل على العكس تراه منمقًا يرتدي حُلة من أجود أنواع القماش ورابطة عنق من الماركات العالمية وهو يطالع الناس بوجهه البشوش ليحلل أسباب الخلل وأخطاء السائقين، وهو على يقين أن السائق مجرد ضحية يدفع بها يوميًا تحت عجلات قطار لا يرى ولا يسمع.. فقط يقتل وأول القتلى هم السائقون.
في مجتمع الطيران لا يمكن إجبار طيار على الصعود بطائرة غير جاهزة تقنيًا وفنيًا رغم أن الطائرة قد تحمل رُبع أو خُمس عدد ركاب القطار، بينما في عالم سكك حديد مصر لو فعلها سائق ورفض الانطلاق فإن التحقيقات تحاصره وشظف العيش يقتل أبناءه جوعًا.. لذا فإن شعار السائقين هو «قد القطار قيادة مودع» والموت علينا حق، مع الشعار السائد «لا يغني حذر من قدر»!!
في حين أن «الحذر والتكنولوجيا» في بلاد برة وصلا بأعمار البشر إلى أرقام كبيرة.. وفي حين أن تنظيم الطرق في بلاد الخواجات الكفرة يجعل من حادثة طريق موضوعًا إعلاميًا تتوقف أمامه قرارات أكبر القادة للدراسة والتحليل ومنع تكرار الأمر.. التقدم العلمي منح الإنسان متوسط عمر أكبر ممن يعيشون في التخلف الذي نمارسه بفخر تحت سيادة مفاهيم لا علاقة لها بالخالق الذي أمرنا بأن نأخذ بالأسباب.
وكل سائق يقود قطارًا بلا تكنولوجيا ولا علم ولا تطور هو مشروع قتيل، لا يمكن لأسرته أن تقيم دعوى قضائية للتعويض، باعتبار أن ابنها دفع دفعًا للموت وقتل مع سبق الإصرار والتعمد بل على العكس إن مات سائق القطار فإن التحقيقات ستثبت أنه قتل نفسه وقتل الآخرين معه، وليس بعيدًا أن يحاكموا أطفاله.. لذا تقرر حبس سائقي قطار الإسكندرية مع أنهم «ضحايا»، ولن يقترب أحد من المجرم الحقيقي لأننا مازلنا إذا سرق فينا الضعيف أقمنا عليه الحد وإذا سرق فينا الغني كرَّمناه ورقَّيناه وأصبح بين يوم وليلة واحدًا من قادة السكــة الحديــد!!