رئيس التحرير
عصام كامل

إرحل وعارك في يديك


احترام الكبير فرض عين على الصغير، والأخير عادة ما يقبل يد الأول إمعانا في التوقير وزيادة في الاحترام، هذه إحدى مفردات مجتمع الريف الذي أنتمي إليه، لم يغيره زحف الأسفلت على المساحات الخضراء، أو أطباق الدش فوق أسطح المنازل، أو زحف القرويين إلى المدينة.. اللهم إلا من ضاق أفقهم بفعل الكتل الخرسانية التي حالت بين مرمى أبصارهم وزرقة السماء فأجدبت خيالهم وبدلت مواقفهم.


قيم الريف الراسخة فرضها قانون العادات والتقاليد الذي لم ينل للكبير من الصغير، لكنه أسند للكبير مسئولية أن يكون قدوة للصغير في السلوك والكلام والقرار، لا أن يكون آفاقا تتلون كلماته وأفعاله وفقا لأهوائه.. فيفقد هيبته ويتحول من قدوة إلى أضحوكة.

في السنوات السبع الأخيرة أصبحت القدوة كالغول والعنقاء، سقطت الأقنعة ففقد الكثيرون هيبتهم بسبب ترنح مواقفهم، هؤلاء ظنوا أنهم في مأمن عن الآخرين، وأن عمليات الرصد لن تطالهم، متناسين أن كل شاردة وواردة يتلقفها الملايين ليكتبوا بها تاريخ هذا أو ذاك، والتاريخ يصبح فيما بعد سندًا لمن يقلب في صفحات الآخرين.

منذ اختياره عضوا في المجلس القومي لمكافحة الإرهاب.. ومع احترامي لمن رشحه لهذا الاختيار فهناك معايير للترشح لا أعرفها.. جلست أقلب في صفحات الشاعر والكاتب فاروق جويدة، هذا الرجل الذي تخطى السبعين وله من الأشعار ما جعله قدوة للكثيرين من زملائي، عندما كانوا في سن المراهقة وخاضوا تجارب حب في الصغر.

فاروق جويدة له جمهور عريض، لا ينكر عليه ذلك إلا جاحد، وله أيضا تاريخ علمتنا التجربة أن نعيد قراءته خاصة أنه أصبح عضوا في مجلس هو الأهم في الوقت الحالي، كما أن جويدة عادة ما يؤكد أن التاريخ لا ينسى بل إنه يحتكم إلى تاريخ كل شخص إذا ما تصدى لتقييم مواقفه وهذا ما حرضني على أن أقلب في تاريخه لأتوقف في خمس محطات هي الأبرز في السنوات السبع الأخيرة.

المحطة الأولى في 7 يناير عام 2011، عندما كتب في هوامشه الحرة بالأهرام مقالا بعنوان "متى يصبح التغيير ضرورة" وفيه أثنى الرجل على الرئيس الأسبق مبارك، وكيف أنه يقاتل في سبيل الوطن والتاريخ لا ينسى، وفي استعراضه لحادث كنيسة القديسين قال جويدة إن رئيس الدولة ليس المطلوب منه بكل مشاغله ومسئولياته أن يدافع عن أخطاء المسئولين في الحكومة أو الحزب الحاكم، وتنقل جويدة بين تصريحات مبارك التي نالت إعجابه مثل وقف احتكار السلع وتوفير مساكن للشباب وحل مشكلات الفلاحين وتوفير إنتاج زراعي يحد من الاستيراد ومنع بيع أرض مستشفى الأمراض العقلية وغيرها من القرارات، لكن في الوقت نفسه حمل الحكومة مسئولية التباطؤ في تنفيذ قرارات الرئيس، مؤكدا أن الرئيس والشعب في وادي والحكومة في وادِِ آخر.

ووفقًا لمقال جويدة يكون مبارك الرئيس المقاتل الذي لن ينساه التاريخ، لكن هذا الرئيس سرعان ما تحول إلى عار على مصر والشعب - لاحظ أن ثلاثة أسابيع فقط تفصل الرئيس المقاتل والرئيس العار- ففي 31 من نفس الشهر "يناير"2011 وهي محطتي الثانية لقراءة تاريخ جويدة، حيث تفاقمت الأحداث وأصبح وضع مبارك كرئيس منتهيا.. كتب فاروق جويده قصيدة "ارحل"، مستلهما الشعار الذي رفعه نشطاء هذه الأحداث، ليؤكد أن مبارك قاتل وعليه أن يرحل عاريا، ودماء الأبرياء في يده، بل إنه "مبارك" كان سببًا في الدماء التي أُريقت في العراق وغزة، ولم يكتف جويدة بلعنة مبارك بل لعن والديه على لسان أهل العراق وغزة، وفي قصيدته أيضًا رفض جويدة اعتذار مبارك عندما قال:
لن يفيدك الاعتذار ولمن يكون الاعتذار.. للأرض.. للطرقات.. للأحياء.. للموتى.. وللمدن العتيقة.. للصغار؟ لمواكب التاريخ.. للأرض الحزينة.. للشواطئ.. للقفار؟

ثلاثة أسابيع فقط.. تحول فيها مبارك من مقاتل يذكره التاريخ إلى قاتل مطالب بالرحيل وعاره على جبهته وفي يديه.

مبارك تغير به الحال، وجويدة ما بين ليلة وضحاها تغيرت مواقفه.

أما المحطة الثالثة التي استوقفتني في تاريخ جويدة طوال السنوات السبع الأخيرة كانت بتاريخ 17 مارس 2012 عندما كتب مقالا في نفس هوامشه الحرة بالأهرام كان عنوانه "عبد المنعم أبو الفتوح" أبو الفتوح طبعا هو ذلك الإخواني السابق– أو الذي ما زال إخوانيا – وكان أبو الفتوح قد أعلن عن ترشحه في انتخابات الرئاسة وتضمن مقال جويدة من الثناء والإطراء على أبو الفتوح ما لم ينله أبو الفتوح من أقرب الناس إليه، فجأة.. تحول المرشح الرئاسي وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان الإرهابية الذي على يديه تدربت كوادر الجماعة.. فجأة تحول إلى رجل مقاتل ووطني حر وصاحب سيرة طيبة، هذا هو عبد المنعم أبو الفتوح كما يراه جويدة، رجل سيرته الطيبة تسبقه في كل مكان، وفي شخصه إشعاع خاص يحيطه بقدر كبير من الاحترام والمصداقية، كنت أتابع مشواره من بعيد منذ ظهوره على الساحة السياسية وهو يجادل السادات عندما كان رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة.

ويضيف جويدة: ما زلت أرى فيه مفكرا إسلاميا مستنيرًا مترفعا في حواره مقنعا في حجته هادئا في آرائه، كما أنه إنسان يجبرك على أن تصدقه، قضى عبد المنعم أبو الفتوح خمس سنوات في السجن بتهمة قلب نظام الحكم وهي قضية ظالمة، وفي نهاية مقاله.. طالب جويدة من عبد المنعم أبو الفتوح أن يصبر لأن معركته من أجل وطن حر وإنسان كريم وهي معركة يستحق أن يتحمل من أجلها الكثير.

هذا هو عبد المنعم أبو الفتوح الذي يحرض على مصر جهارا نهارا في الداخل والخارج لكن جويدة رآه شخصا آخرا غير الذي نعرفه.

المحطة الرابعة التي استوقفتني وأنا أقلب في صفحات تاريخ فاروق جويدة كانت في 27 أغسطس 2012، عندما اختاره محمد مرسي مستشارا له، ويومها أعلن جويدة أنه شارك ليطرح أفكاره، وبديهي.. لن يقبل رجل في قامة جويدة العمل مع مرسي إلا إذا كان مقتنعا به رئيسا لمصر، ولا تعليق على هذه المحطة لأن موقف الرجل تبدل أيضا وأصبح رأيه في مرسي والإخوان مغايرا بعد ثورة 30 يونيو، تماما مثلما تبدلت موقفه مع مبارك من رئيس مقاتل إلى رئيس قاتل.

أما المحطة الخامسة فكانت في 26 يوليو الجارؤ.. عندما أُختير فاروق جويدة عضوا في المجلس القومي لمكافحة الإرهاب- ولا بد كما قلت سابقا- أن الاختيار هنا تحكمه معايير لا أعرفها، لكن ما أعرفه أن جويدة تغزل في عبد المنعم أبو الفتوح الكادر الإخواني وأكد أنه الحر الصادق المستنير المترفع الهادئ المقنع الذي يخوض المعارك من أجل الحرية والكرامة والوطن، وأتساءل.. هل تغير موقف فاروق جويدة من عبد المنعم أبو الفتوح بعد اختياره عضوا في المجلس القومي لمكافحة الإرهاب؟ إذا تغير موقفه فتلك طبيعته.. تتغير مواقفه كما حدث مع مبارك ومرسي، وغذا لم يتغير فتلك الطامة الكبرى، لأنه من غير المنطقي أن أكافح الإرهاب وعبد المنعم أبو الفتوح الذي تدرب على يديه كم كبير من أعضاء الجماعة الإرهابية هو النموذج للوطنية والكرامة والحرية وصاحب الشخصية المشعة التي تجبر الجميع على احترامه وتصديقه.

تلك محطات خمس من تاريح فاروق جويدة توقفت أمامها، لم تكن وقفتي تمثل أدنى اعتراض على اختياره عضوا في المجلس القومي لمكافحة الإرهاب بقدر ما كانت تحريض منه على إعادة قراءة تاريخ الكبار عسى أن نجد من بينهم القدوة.
basher__hassan@hotmail.com

الجريدة الرسمية