مكتسبات ثورة يوليو بين عبد الناصر والسادات!
ثورة 23 يوليو 1952 التي ما زال بعض الكارهين لها ولقائدها يصفونها بالانقلاب العسكري في محاولة لتشويهها، هذه المحاولات الفاشلة لا يمكن أن تصمد أمام العلم كثيرا، فمن المعروف والثابت والمستقر والمتفق عليه في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية أن الثورة" هي إحداث تغيير جذرى في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية" هذا هو جوهر مفهوم الثورة.
لذلك يمكننا التأكيد بما لا يدع مجال للشك أن الثورات لا يحكم عليها إلا بنتائجها، فإذا أحدثت تغييرا جذريا في بنية المجتمع، وأحدثت تغييرا حقيقيا في خريطته الطبقية المختلة، وأعادتها إلى توازنها، بحيث تبرز الطبقة الوسطى على حساب الطبقات الدنيا الفقيرة والكادحة والمهمشة نكون هنا أمام ثورة حقيقية، وإذا لم يحدث التغيير الجذرى في بنية المجتمع، وظلت الخريطة الطبقية المعتلة كما هي فإننا أمام أي شيء آخر غير الثورة.
لذلك نستطيع أن نقول وبقلب وضمير مستريح، وبعيدا عن أي مواقف غير موضوعية إن ثورة 23 يوليو 1952 هي الثورة الحقيقية الوحيدة حتى اللحظة الراهنة في تاريخ الشعب المصرى، لأنها الثورة الوحيدة التي أحدثت تغييرا جذريا في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهى الثورة الوحيدة في تاريخنا التي انتصرت للفقراء والكادحين والمهمشين، ومكنتهم من حقوق المواطنة، وهو ما أدى إلى حدوث حراك اجتماعى صاعد لقطاعات واسعة من أبناء الشرائح الطبقية الدنيا، تمكنوا من العبور والصعود والاستقرار بكرامة في فناء الطبقة الوسطى.
فخلال الأيام الأولى لثورة يوليو كانت المواجهة مع القوى الاقتصادية المسيطرة المتمثلة في رموز الإقطاع، فكان صدور قانون الإصلاح الزراعى ضربة قاضية أحدثت تغييرا جذريا في البنية الاقتصادية والاجتماعية، انعكست على شكل الخريطة الطبقية للمجتمع المصرى، تبعتها ضربات سياسية لتغيير جذرى في البنية السياسية التي كانت حكرا على مجموعة من الأحزاب التي يتربع عليها مجموعة من البشوات والبهوات والأفندية، بعيدا عن الجماهير الشعبية، فجاءت هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى تنظيما سياسيا جامعا لقوى الشعب العامل، ولأول مرة يتم تمكين جموع المصريين من المشاركة السياسية، وإمكانية الصعود للسلطة، فكانت نسبة 50% للعمال والفلاحين في المجالس المنتخبة تمييزا إيجابيا لظلم تاريخى، ثم نص دستور 1956 على حق المرأة في الترشح للبرلمان، خطوة سبقت فيها مصر بريطانيا العظمى التي لم يمكن دستورها يمكن المرأة من الترشح إلا في عام 1958, وهنا تغيير جذري في البنية السياسية، ثم كان التعليم المجانى ودعم الدولة للعلوم والفنون والثقافة الجماهيرية تغييرا جذريا في البنية الثقافية للمجتمع المصرى.
هذا التغيير الجذرى في بنية المجتمع المصرى الذي انعكس على الخريطة الطبقية المختلة قبل ثورة 23 يوليو 1952، والتي كان يتم فيها الفرز الاجتماعى على قدم وساق، حيث الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا, فجاء جمال عبد الناصر بثورته لينحاز للغالبية العظمى من شعب مصر من الفقراء والكادحين والمهمشين، فكانت مجمل سياساته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تصب في صالح هؤلاء، لذلك عند رحيله في 28 سبتمبر 1970 كان قد أنجز جزءا كبيرا من مشروعه الوطنى، وحصل الفقراء والكادحون والمهمشون على حقوق ومكتسبات لم يحصلوا عليها طوال التاريخ المصرى.
ثم جاء الرئيس السادات لينقلب على ثورة 23 يوليو عبر ثورة مضادة، أحدثت أيضا تغييرا جذريا في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وغيرت الخريطة الطبقية بشكل واضح, لكن للأسف الشديد التغييرات الجديدة كانت سلبية على المستفيدين من مكتسبات ثورة يوليو، فعندما أعلن السادات عن سياسة الانفتاح الاقتصادى كان ذلك تغييرا جذريا أعاد المجتمع المصرى لعملية الفرز الاجتماعى من جديد، حيث الغنى يزداد غنى والفقير يزداد فقرا وبالطبع تختفى الطبقة الوسطى، ثم يعلن الرجل عن التعددية السياسية فتتحول المسألة لسيطرة مجموعة من رجال المال على السلطة، ومع الانفتاح تنتشر قيم الواسطة والمحسوبية والرشوة والغش والفهلوة، وينهار التعليم وتختل المنظومة الثقافية.
ومن هنا يتضح أن مكتسبات ثورة 23 يوليو 1952 التي صنعها جمال عبد الناصر بسياساته المنحازة للفقراء والكادحين والمهمشين، قد قضى عليها السادات عبر ثورته المضادة، والتي مازالت مستمرة حتى الآن، وإذا ما أردنا تصحيح المسار فعلينا أن نعود مرة أخرى إلى سياسات منحازة للغالبية العظمى من شعب مصر من الفقراء والكادحين والمهمشين، وهذا بالطبع يتطلب مواجهة مباشرة مع رموز الثورة المضادة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، اللهم بلغت اللهم فاشهد.