رئيس التحرير
عصام كامل

عندما كنت رسولًا!


كان يحلم بالصباح، وإلى مستقبل أفضل طالما تمناه لرعيته، لكنها الحرب التي أجبرته على حمل السلاح ليحمى هذه الرعية، تسعة أشقاء وأبوان وجدة، هم دولته الصغيرة، سلاحه صوبه تجاه الفقر الذي سكن جنبات منزل متواضع نصفه آيل للسقوط، تلك كانت جبهة، وتجاه كل من يحاول النيل من رعيته، سواء بإفسادها أو إحباطها، وتلك كانت الجبهة الثانية.


لم ينل الفقر من عزيمته، حلمه كان يذيب جلطات الإحباط التي تسببها طلبات لا تتوقف لزوم المعيشة. كنت رسوله إذا أجبرته الحاجة على الاقتراض "وطالما أجبرته" تختلف الرسالة التي أحملها وفقًا لحالة العوز، وأيضًا للشخص المرسل إليه، فإذا كانت مرضا وتحتاج لطبيب كانت الرسالة (أخويا بيسلم عليك وبيقولك محتاج فلوس وبسرعة لغاية أول الشهر) وإذا كان مصاريف مدرسية كان نصها (أخويا بيسلم عليك وبيقولك محتاج فلوس لو كان معاك) أما الاقتراض لمأكل أو مشرب أو ملبس فلم يكن واردًا، لأن الفلاح الذي يمتلك بضعة قراريط عيب عليه إذا نام جائعًا.

كان على أن أحفظ أسرار الرسائل التي أحملها رغم أننى كنت الأصغر سنًا، لأن البوح بها أمام أشقائى ربما ينعكس سلبًا عليهم. كانت إذا ضاقت يبتسم، وإذا استحكمت حلقاتها يفر إلى الله في عزلة قصيرة لتنقشع الغمة. لم أعهد على وجهه غير الابتسامة، لكن صدره يضيق إذا سأله أحد الأشقاء: هو أنت مرتبك بيكفينا إزاى؟ هو أنت بتستلف من حد؟ هنا تختفى الابتسامة وتكسو الحدة وجهه، ويعلو صوته.. "أنت مالك؟ المهم أنك بتلاقى اللى بتطلبه، ادخل الأوضة صلى وذاكر، لأن عايزك تبقى متفوق". كنا نهابه، ونخشى غضبته، أما تجنبه وتجاهله لأحدنا..

فكان العقاب الذي لا نتحمله، لما لا وقد وهب حياته لنا، ولم يتذوق من نعيم الدنيا سوى متعة قربه من الله، وكفاحه من أجلنا.. فتحول إلى مضربًا للأمثال في الإيثار والعفة وعزة النفس. كان سباحًا ماهرًا، يواجه أمواج الحياة إذا قست بالصبر، لأنه كان يعلم أن الشط آتٍ حتى لو طالت المسافات، وبعد مشوار طويل، أغلبه ضبابى، لاح الصباح، وعبر الرجل برعيته إلى شط الأمان، وأصبحت أرى رسلًا تطرق باب منزلنا الذي تبدل حاله هو الآخر لتقترض لحين ميسرة.

رحلة حياة كانت مفرداتها الصبر والحمد والعمل والإيثار والأمل والحلم.. هذا هو "جميل" علمنا فضائل نعلمها لأبنائنا، فظل وسامًا على صدر رعيته. هو مثلك.. كان ينتمى للمؤسسة العسكرية التي علمته الجلد والزود عن الرعية، والتفانى من أجلها. اقترض كما تقترض، تحمل كما تتحمل، حمل بين جوانحه حلم العبور إلى المستقبل، كان يدفعنا إلى العمل باستمرار، لم نسمع منه لفظا نابيا، حتى إن شعاره كان (أحسن إلى من أساء إليك) كان عطوفا حالمًا، قويًا إذا استشعر شيئًا يهدد أهله.

تلك هي قواسم مشتركة بينكما، بالتأكيد أعلم أن أعباءك أكثر، ومسئولياتك أضخم، وحربك أوسع وأشمل، لذلك كان طبيعيًا أن أتقبل منك حدتك على نائب في البرلمان تحدث عن رفع الحد الأدنى للأجور، وابتسمت عندما تحدث وزير الإسكان عن صحفيين سألوه عن مصدر تمويل كل هذه الوحدات السكنية، وتدخلت أنت سريعًا وبشيء من الحدة وطلبت منه أن يتجاوز هذه الجزئية. تذكرت وقتها "جميل" عندما كان يسأله أحد رعيته عن كيفية تدبيره نفقات الحياة رغم أن راتبه الشهرى لم يكن كافيًا؟ كنت أيضًا أشعر بالحدة في رده، فقد كان الرجل يقترض لكنه لا يريد أن يحمل من حوله أعباء نفسية.

سيادة الرئيس:
أعلم أنك ورثت تركة هي الأثقل، في ظل ظروف سياسية هي الأصعب، وتوازنات هي الأعقد، لكنى على يقين أننا لا محالة عابرون إلى شط الأمان، لكنى أخشى ما كنت أخشاه عندما كنت رسولًا لأخى وقت الحاجة، أن تستسهل الحكومة الاقتراض فيكون ذلك عبئًا عليك وعلينا، وأخشى أيضًا أن الحروب التي تخوضها حفاظًا على مصر تفقدك جزءًا من حلمك وأنت الذي قلت: "هذا الشعب يحتاج إلى من يحنو عليه"، وربما كانت الأفواه المفتوحة والمطالب التي لا تتوقف هي دافعك للتأكيد على أننا "فقراء". أعلم أنك تتحدث بصدق مع شعبك، لكن الذين في قلوبهم مرض لاكت ألسنتهم هذه الجملة ليل نهار.

سيادة الرئيس:
أتمنى عليك أن تظل محتفظا برحابة صدرك، فهذا هو الشعب الذي انتظرك لتحنو عليه. سيادة الرئيس.. أعلم أن المحيطين بك هم الأكثر وطنية، وأعلم أن التحسس في الاختيار هو السمة الأغلب، لكن حسن النية أحيانًا يجعلنا نتوقف مشدوهين أمام بعض الاختيارات التي ترهقك وترهقنا.

وأخيرًا.. لست في حاجة إلى جبهات وتكتلات بدأت تلوح في الأفق للدعاية لفترة رئاسية ثانية، وأخشى أن يكون من بين هؤلاء طامعون في مناصب فينقلبوا إلى النقيض إذا لم يتحقق لهم ذلك، تمامًا مثلما حدث من بعض أعضاء حملتك الانتخابية الذين لم يتحقق لهم ما كانوا ينتظرونه من مناصب فوجهوا سهامهم لتنال من الجميع. 

basher_hassan@hotmail.com
الجريدة الرسمية