رئيس التحرير
عصام كامل

رحيل بطل


قبل سفرى إلى الخارج كان لابد وأن أزوره في مستشفى مصر للطيران.. لأول مرة في حياتى أراه يتحدث عن الغياب.. قال بكلمات بسيطة "خلاص.. لقد عشت كثيرا وآن أوان الرحيل".. لم تكن فكرة غيابه بالموت سهلة على إدراكى؛ فقد عشت معه أكثر من ستة عشر عاما تلميذا، أنهل مما منحه الله له من علم وفير وخبرة غزيرة وفهم فلسفي للحياة، يمثل قيمة أكبر من كل علوم الدنيا.. لم أنس أن أقول له "سأسافر وفور عودتى سآتى إليك".. غبت أسبوعا وعدت ويوم عودتى كان هو قد فارقنا إلى الأبد.. عن فارس الصحافة المصرية الدكتور صلاح قبضايا أحدثكم.


تربى قبضايا في مدرسة أخبار اليوم على أيادى أساتذة الصحافة في مصر.. تعلم من مصطفى أمين وعلى أمين وعمل مع التابعى وتعارك مع موسى صبري، ثم شهد له بالفضل، وفي فترة تاريخية حاسمة كان مقاتلا مع قواتنا المسلحة كواحد من أقدم المحررين العسكريين فشارك في حرب اليمن، وأصيب فيها وشارك في ٦٧ وذاق مرارة الهزيمة، ولكنه لم ينكسر يوما ولم يفقد الأمل في جيش بلاده وسجل بقلمه أولى بشائر النصر عام ١٩٧٣ بكتابه الذي لا يزال ينبض بالحياة "الساعة ١٤٠٥"..

من رحم موهبته ولدت أول صحيفة معارضة مصرية عام ١٩٧٦- جريدة الأحرار، وعلى صفحاتها استضاف الناصريين والشيوعيين والوفديين، فكتب فيها خالد محيي الدين وضياء الدين داوود والمستشار ممتاز نصار، فاستحقت صحيفته أن يطلق عليها "صحيفة المعارضة".. كان ليبراليا حتى النخاع وكان مقاتلا شرسا في الحق يؤمن بأن القلم أشد فتكا من الرصاصة، وانطلاقا من إيمانه هذا عاش حياته مدافعا عن المعلومة ومطاردا الهمس والغمز واللمز.

عاش صلاح قبضايا لحظات النصر تاريخا عريقا، فظل حتى لحظاته الأخيرة يكتب لأبطال نبراس "الخدعة" عن حكايات النصر العظيم، وترك تراثا في التحرير العسكري يعد ذخيرة للأجيال المتتالية وظلت قصص في حياته، ما أحوجنا اليوم إليها نعود إلى صفحاته نلتمس فيها رائحة عرقه.. كان قبضايا يمارس الكتابة جهادا وعرقا ونضالا وكان يخرجنا من لحظات الهزائم النفسية بروايات بطولية يشيب لها الولدان.

ورغم أنه فصل من الأحرار بقرار من الرئيس السادات، إلا أنه وحتى لحظاته الأخيرة كان يحادثنا عن البطل أنور السادات بإعجاب وفخر، لا يعترف بهما إلا ذو قلب سليم..

كان قبضايا قلبا كبيرا يحمل بين جوانحه خيرا لكل الناس.. غادر القاهرة إلى لندن وهناك نسج واحدة من قصص النجاح بالصحافة العربية في لندن، وعندما عاد بعد سنوات كان المشهد الصحفى في مصر قد تغير.. آثر البقاء في منزله يهدهد ابنته الوحيدة.."هبة الشقية" كما كان يصف محاوراته معها حتى التقى الشيخ الشعراوي.

سأله الشيخ الشعراوي: وأين تعمل الآن؟.. أجابه بصفاء ونرجسية: لست بحاجة إلى العمل.. قال الشيخ: ولكن المسلم يعمل على قدر استطاعته وليس على قدر حاجته، حتى يكفل من لديه استطاعة كل من ليست لديهم استطاعة..

في اليوم التالى، بدأ يبحث عن عمل كمحرر في أي صحيفة.. نعم لم يكن صلاح قبضايا الذي ملأ دنيا الصحافة بأعماله يهتم بالمنصب.. أعاد إصدار صحيفة صوت الأمة مع صاحبها المنتج السينمائى الراحل عدلي المولد.

لم تمض شهور إلا وعاد قبضايا إلى ابنته الشرعية وأحد أهم منتجاته في عالم الصحافة.. عاد إلى الأحرار ونحن معه وعلى يديه بدأنا رحلة كفاح وتعلم، كان هو فيها الأب والمعلم وصاحب الفضل في بناء شخصياتنا الصحفية.. علمنا أن المعارضة ليست هدفا في حد ذاتها ودربنا على أن الحقيقة هي الهدف الأسمى وخاض فينا معارك الاستعجال الصحفى لصالح التمحيص التدقيق فكان صاحب صولات وجولات.

علمنا صلاح قبضايا أن إدارة المعارك علم وفن، وأن المعلومة الدقيقة هي سلاح الصحفى أمام السلطة وأمام القانون وقبل هذا وذاك أمام صاحب العمل.. وصاحب العمل في عرف أستاذنا هو القارئ والهدف هو القارئ وصاحب السلطة الحقيقية هو القارئ، وصاحب السلطان الحقيقي هو القارئ.. كان قبضايا يكره الانفعال ولم نره متشددا إلا عندما يكتب زميل لفظا خارجا.. كان يقول الصحافة فن والنقد التزام والألفاظ البذيئة ليست رسالة والإقدام عليها إفلاس وفقر مهنى.

لم يكن يرفض في حياته إلا هذا النوع من البشر الذين لا يرون إلا نصف الكوب الفارغ.. كان يكره الإحباط ويقول: تخلص من كل محبط في محيط عملك ليس لأنه محبط، ولكن لأنه طاقة سلبية تؤثر على الآخرين.. تعامل مع نصف صحفى ذي طاقة إيجابية ولا تعمل مع صحفى محترف مهنيا لو كان اليأس طبيعته.. وكان عليه رحمة الله طاقة إيجابية.. تراه بكامل لياقته في الأزمات.. هادئ الطبع يدير الدفة بمهارة.. يجيد السباحة وسط أمواج متلاطمة ورياح عاتية.. كان صانعا للأمل عندما تعتقد أنه لا أمل.. كان طاقة حب لا تزال تظللنا رغم مرور سنوات ثلاث على غيابه.

الجريدة الرسمية