إعادة نشر: هذا جيشك يا بني
المشهد الأول
كأى أب كنت أحلم بتعليم جيد لابني، تحسنت الظروف ونقلته إلى مدرسة لغات، غير أن معركتي كانت دوما فيما يمكن أن تؤدي إليه الدراسة في هذه المدارس وهويته المصرية، العربية، الأفريقية، نما الطفل الصغير أمام عيوني، وهو يتقدم في طريقة تفكيره، وأصبح الطفل شابا يافعا، وانتهى من مرحلة التعليم الثانوي الأمريكي، التحق بعدها بجامعة أجنبية، وأنا مازلت أنا، أعارك من أجل هويته التي كنت كثيرا ما أظن أنها تاهت أو ضاعت في طرق تفكير مغتربة.
أخيرا تخرج ابني في الجامعة البريطانية، كنت قد لاحظت في آخر ثلاث سنوات إقباله على الرياضة، رياضة كمال الأجسام، وبنهم شديد تفرغ بكل طاقته في هذا الطريق، أيام قليلة كنت على موعد مع نقاش حامى الوطيس بيني وبينه، كجيل جديد تعلم في مدارس غير التي تعلمت فيها، قرأ آدابا غير التي قرأتها، اهتم بالأدب الإنجليزي.. كون مكتبة رائعة لمؤلفين عالميين.
يقبل ابني على قراءة أخباره من مواقع أجنبية، ويحرص على متابعة حركة النشر في عواصم أوروبية، وأنا مازلت أنا، المتيم بيوسف إدريس، ويحيي حقي، ويوسف السباعى، وطه حسين، وغيرهم من عمالقة الفكر العربى، كلما وجدت ابني يلتهم أحد المؤلفات الأجنبية يدركني الخوف، وتلتهمنى الرهبة، وتدوسنى مساحات من القلق.. كيف سيكون أحفادى؟ كنت كالذي يرعي حول الحمى يوشك أن يواقعه.. كنت أخشي نقاشا صريحا حول انتماءات ابني.
سافر من رفاقه كثيرا إلى دول أوروبية، وإلى أمريكا، وإلي كندا، وأستراليا، يبحثون عن مساحة الأمن الاقتصادى، والأمن المستقبلى، غير أنه لم يفكر في ذلك أبدا، رغم وجود فرص مهمة لاستكمال دراسته بالخارج، شيئا فشيئًا اقتربت من مربع الخوف الذي يطاردني، غير أني عادة ما كنت أبتعد خشية المواجهة.. منذ أيام فاجأنى ذلك الطفل الشاب الرجل، وهو يفاتحني بقوله: أليس من الظلم أن يحول القانون العسكري بين وحيد أبويه وبين خدمة بلاده والالتحاق بالقوات المسلحة.
قبل أن أفيق من مفاجأة سعيدة أردف قائلا: كيف يمكنني الالتحاق بالجيش؟ هل لديك مانع من تطوعي؟.. وأسقط أيمن كل استفساراته المدهشة لى؟.. لاحظت أنه يحمل بين كفيه واحدة من روائع نجيب محفوظ، يبدو أن الجمالية التي يعشقها ابني اختطفته من ميادين شكسبير، وشوارع لندن، وكل أحلام الشباب في هجرة إلى حيث الوهم اللامتناهى.. انتهينا أنا وهو بعد إصرار عنيف منه للتطوع بالقوات المسلحة، إلى أنه يستطيع أن يخدم بلاده في شركته أو وظيفته أو بيته أو تربية أبنائه.
أدركت أن كل سنوات الخوف التي قضيتها وهواجسى التي طالتنى وسحقتنى، وكادت تعصف بحلمي في طفلى، لم تستطع أن تطرد من قلبه وطنا هذا جيشه، وطنا يسكن فينا، في دمائنا، في شراييننا، في جينات لا نراها إلا حينما يكبر الطفل، ونرى حلمه حلمنا، وعيه وعينا، قلبه سلك شائك يحافظ على تراب الكتيبة، ورمل الصحارى الشاسعة، وحدود يضيع من أجلها ومن أجل الدفاع عنها.
المشهد الثانى
تخرج ابن شقيقي في جامعة القاهرة، أيام قليلة قبل أن يحتفل والده به كان على موعد مع الاختبارات الطبية لقضاء الخدمة العسكرية، التحق بأحد الأسلحة، غاب عنا أياما كثيرة دون تواصل أو اتصال، ورغم أني أعرف حجم ما يسيطر عليه هذا الشاب من قلبى أبويه فإنهما لم يتذمرا، ولم يعلنا خوفا على ملامحهما، ولم يطلبا منى الاتصال أو مهاتفة من يستطيع أن يطمئننا عليه.
حصل الشاب على أول إجازة له قبل توزيعه إلى وحدته العسكرية، عاد إلينا أسمر الوجه، بلا شعر في الرأس تقريبا، جنديا في زي عسكري، حظي بلمسات من أبويه، وكأنه العائد من سر الاختفاء خلف تل من ظنون وخوف وتحدٍ لابد أن تعيشه أسرة كتب الله على وطنها أن يعيش جنوده في رباط إلى يوم القيامة.. يبدو أن الأبوين خشيا من توجيه السؤال: هل يمكن أن تلتحق بكتبية في سيناء؟ يبدو أن الحرج الوطنى منعهما من السؤال؟
قال الجندى الجديد في عائلتنا وهو يبتسم: وإن شاء الله المتوقع إني أروح سينا مع زمايلى، الدنيا هناك صعبة، ولازم نخلص الموضوع ده.. قالها وكأنه قائد عسكري سيقرر ما يشاء، قالها وقلبا أبويه يتأرجحان بين الإحساس برجولة ابنهما وشهامته، والأخبار المتواترة من هناك، حيث الغدر والخيانة في مواجهة البطولة والتحدى، ابتسما وهناك من بالعائلة يردد وبحسم: إما أن نكون أو لا نكون.
غادر الشاب منزل العائلة عائدا إلى حيث تزرع نبتة الشجاعة فتطرح رجالا، غاب كثيرا دون تواصل أو اتصال، وكلما حدثت شقيقي بشأنه، قال بلسان متلعثم: يعني هو أحسن من اللى بيروحوا كل يوم، قدره ونصيبه، في مرات أخرى يقول: الجيش مدرسة ستعلم ابني ما لم أعلمه، قوة وصلابة ومهابة وقرار، الجيش سيعيد لي ابنى رجلا، قويا، قادرا، صاحب مسئولية، مضت أيام تهضمها أيام، وكلما عاد إلينا أحدث جندى في العائلة اجتمعنا حوله، وهو لا يحكى إلا كل مايبث الطمأنينة في قلوبنا جميعا.
تغيرت ملامحه، تغيرت عاداته، تغيرت مفاهيمه عن الحياة والموت، تبدلت أحلامه، سقطت من قاموس حياته مفردات التواكل والكسل واللامبلاة، أصبح صلبا، صلدا. لايلين، حاسما في قراره وفي قوله، في قيامه وجلوسه، أصبح مهابا ذا ملامح جادة لا تعرف التردد، تعلم في عام واحد ما لم تعلمه له المدارس والجامعات، أصبح حكيما يقول ما يؤمن به، بعيدا عن جنون المراهقة، وطيش الحياة الجامعية.
عاد المدلل من أبويه بعد قضاء خدمته العسكرية، واحدا غير الذي سلمته العائلة للجيش، أصبح الآن يدبر أموره كما لو كان شيخا مسنا أكسبته سنوات العمر خبرة ما كان ليحصل عليها في معامل العلم، وصفحات الكتب، خرج الجندى من معسكره آخر مرة، وهو يعلن أمام الجميع أن الولادة في الحياة ليست واحدة، وتجربة الجيش ميلاد جديد، يستحق أن نفاخر به الأمم.
المشهد الثالث
الأب: متعاطف مع الإخوان.. الأم: لاحول لها ولا قوة.. بقية الأسرة مثل كثير من الأسر تعتنق ما يقوله الكبير، والكبير هو الأب.. الذي يعلن في كل مجالسه أن الإخوان تعرضوا لظلم بين، وأن هناك معركة ضد الإسلام، وأن الإخوان هم حملة راية الدفاع عن الإسلام، وأن الجماعة واجهت حربا صهيونية، خوفا من تطبيق الشريعة، الابن الأكبر كان شابا معتدلا يشهد له الجميع بدماثة الخلق، يختلف مع والده دون غطرسة.
انتهى الشاب من دراسته، وهاهو يستعد الآن لخوض معركة الحياة، يخفف من أعباء ألقت بها الأيام على كاهل والده، ذهب إلى إدارة التجنيد، وكله أمل أن تعفى دفعته من الالتحاق بالجيش، بعد الكشف الطبي واتخاذ كافة الإجراءات يقع الاختيار على الشاب المهذب ليكون واحدا من جنود مصر.
الأب يجري هنا وهناك، يطارد معارفه، يتواصل مع أعضاء في البرلمان، يبحث هنا وهناك عن لواء، أو عميد، أو عقيد، ليخدمه في ابنه.. تركزت كل خطط الأب ليحول دون تجنيد ابنه في سيناء، ورغم أن آلاف الشباب يلتحقون في كل دفعة بالجيش، في وحدات عسكرية بعيدا عن سيناء، فإن القدر يضع الأب في واحدة من أشرس المعارك النفسية، ينتقل الابن إلى واحدة من مواقع جيشنا في سيناء.
يلهث الأب ليل نهار وراء نشرات الأخبار، يطارد الفضائيات، يلاحق المواقع الإلكترونية، يشتري الصحف، يراقب أسماء الشهداء، كلما قرأ عنوانا عن هجوم على أحد الأكمنة سقط مغشيا عليه، شيئا فشيئًا بدأ يتابع انتصارات جيش ابنه، كلما قرأ عن عملية بطولية للجيش هتف: الله أكبر، كلما تابع الإعلان عن عملية عسكرية تهدف لمحاصرة قوى الشر هتف: الله أكبر.. بدأ الأب يتغير، ويغير من أسرته.
أدرك الأب أن الجيش هو ابنه، وأن العدو هي كل قوى الشر النابتة من جذور الإخوان والتيارات المتطرفة، بدأ يشعر أنه واحد ممن يواجهون التيارات الظلامية، وأن ابنه الرابض على جبهة المواجهة واحد من الأبطال، كلما حصل الابن على إجازة حكى لوالده نماذج من خسة الإرهابيين، ونذالتهم، وطغيانهم، وممارساتهم.. كره الأب كل من ينتمى إلى الجماعة الشريرة، بدأ يخوض معارك مع ابنه، ابنه يقاتل في سيناء، وهو يقاتل في الشوارع كل صاحب فكرة متطرفة، كل منتم أو متعاطف مع الجماعة الإرهابية.
كانت القرية الصغيرة تتابع هذا التغير، وأصبح الأب نموذجا لفقه الواقع، نموذجا للتغير الذي تكشف وقائعه الظروف، ألم يكن هذا الاب هو المعلن عن فرحته كلما سمع بسقوط شهداء من الشرطة أو الجيش، لقد أصبح له شاهد عيان من دمه ولحمه، أصبحت أسرته في مرمى نيران الإرهاب، أصبح فلذة كبده واحدا من المستهدفين على الجبهة في سيناء، أصبح ابنه هو وطنه وأصبح ابنه هو الجيش.
انتهى الابن من خدمته العسكرية، عاد سالما وهو يقول لأبيه: لم أكن محظوظا مثل رفاقي الذين استشهدوا، والابتسامة تعلو وجوههم.. لم أكن يا أبى واحدا من هؤلاء الأطهار الذين اختارهم الله إلى جواره، وأصبح الأب مثلنا واحدا ممن يعرفون معنى الجيش!!
المشهد الرابع
المنتقل من زهراء المعادى إلى النصف الثانى منها والعابر لطريق الأوتوستراد سيفقد من يومه ساعة أو ساعتين؛ ليعبر مسافة لا تزيد على عشرة أمتار، إحدى شركات وادي دجلة أعلنت أنها تتبرع لإنشاء نفق بمسافة لا تزيد على الأمتار العشرة، مضى أكثر من عشرة أشهر، والناس يصطفون بسياراتهم ليعتلوا طريق الأوتوستراد، ومن ثم يعبرونه بالتقاطع، بسبب إنشاءات النفق.. عشرة أشهر من أجل شق نفق عشرة أمتار.
عشرات المشروعات والكلام لخبير متحدثا عن الدور الذي تقوم به القوات المسلحة في المشروعات القومية: عشرات المشروعات لو تركت في هذه المرحلة الصعبة للقطاع المدني فإنها لن تنفذ.. ضرب الرجل أمثلة كثيرة، فالقوات المسلحة لاتعرف الأيدي المرتعشة.
تتخذ القرار وتبدأ في العمل، بالتعاون مع شركات القطاع الخاص، القوات المسلحة تذلل العقبات، أحد المتابعين للنقاش يقول إن وزيرا جاء إلى الوزارة وخرج منها دون أن يوقع قرارا واحدا بسبب التردد.
تدخل القوات المسلحة الآن هو واحد من المهام التي يجب أن ندرك أن الضرورة هي التي فرضتها، أنا شخصيا واحد من المؤمنين بضرورة عودة الجيش كمؤسسة مصونة ومصانة، رابضة على الحدود تحمى وتدافع عن العرض والأرض، غير أن الواقع يفرض على الجيوش معارك أخرى، حدث ذلك في كل دول العالم، في الصين، وفي كوريا، وفي أمريكا وفى العديد من دول العالم.
وجود الجيش في الحياة المدنية لابد وأن يصاحبه عمل دءوب في القطاع المدني، مواجهة حقيقية للفساد والتردد وكل آفات الماضي، العمل بالتوازي سيتيح الفرصة للجيش أن يعود إلى ثكناته، عندما يطمئن إلى صحوة القطاع المدني، تدخل الجيش لمواجهة الجشع ضرورة، تدخل الجيش لإنجاز مشروعات مهمة ضرورة، تدخل الجيش وتحمله المسئولية على الساحة الآن فرض عين، وليس نزهة أو مغنما.
أعرف قيادات بالقوات المسلحة هم الأكثر إلحاحا في العودة إلى مواقعهم، لأنهم يدركون حجم الأخطار التي تواجه مؤسستهم نتيجة تعمقها في الأعمال المدنية، غير أن الواجب الوطني هو الذي يفرض عليها أن تبقي للخروج من عنق الزجاجة.
على الطرف الآن هناك من يدركون حجم الكارثة، فماكينة التآمر تدور، أجهزة معادية تدير عملائها، سذجا، سطحيين، متآمرين يلعبون بالنار، ينتهكون حرمة المقدس، ويقدسون الحرام، يتلاعبون بمقدرات الوطن المحمل بكل تركة الماضى السحيق، يلوكون جيش مصر وأبطال مصر بكل صنوف القول الرخيص، يلعبون بمقدرات أمة أراد لها أعداؤها أن تنبطح، أن تنكسر، أن تسقط تحت نير الفوضى العارمة، أن تصبح نهبا لكل مغرور، لكل عدو متآمر.
ماكينة التواصل الاجتماعى تدهس في طريقها كل تدخل محمود للجيش، وكأن الجيش سعيد بما هو فيه، من تحمل أعباء النهوض من العثرة، لصوص المال العام يخشون من استمرار الجيش الآن، لأن في ذلك تهديدا لمكاسب وأرباح تقدر بالمليارات، حجم التحدى أكبر من أن “بوست” لا يدرك المستفيد منه، حجم الكارثة يهدد الجميع إذا ما نجح أعداؤنا في النيل من جيشنا، جيشنا هو أنا وأنت.. ابني وابنك، جيشنا ليس مستوردا أو مستأجرا، جيشنا هو الفلاح، والعامل، والخريج، هو الضابط، وصف الضابط، والجندى.