قطر الكبرى!!
لست متخصصًا في الشأن الخليجي وعلاقتي بالخليج تنحصر في إحساس قومي عروبي وبعض زيارات وقراءات متفرقة في الشخصية الخليجية، غير أن الأزمة القطرية كانت دافعًا لمزيد من المتابعة والتأني والقراءة لمزيد من الفهم والوعي بما يجري هناك.
حتى وقت قريب كنت أتصور أن غضبة من حاكم سعودي كفيلة بالقضاء على دويلة قطر وإلغائها من الوجود، غير أن الواقع أثبت أن حاكم قطر لديه فسحة من المساحة والوقت يتحرك فيهما "ببراح كبير".. ففي الوقت الذي ضاقت به دنيا الخليج كان الرجل قادرًا على التحرك صوب جبهات أخرى أكثر ألمًا للأمة العربية كلها وليس الخليج وحده.. استطاع الأمير القطري أن يمارس «نوعًا من الشرود» المحسوب دون أن توقفه مخاوف التلاشي أو الانتحار.
فهم الأمير جيدًا أن القضية السورية ليست وحدها من تم تدويلها، فالخليج الذي مارس استقلالا مصطنعًا ما عاد قادرًا على الحفاظ على هذا الاستقلال الصوري، وأن الخليج نفسه في طريق علانية التدويل بعد أن كان سريًا.. أتى بتركيا -أحد أهم اللاعبين الأساسيين في المنطقة شئنا أم أبينا- وتحرك صوب «طهران» بأريحية شديدة وغازل أطرافًا أمريكية ليعيد الدفة إلى التوازن فأصبح يحوز دعم البنتاجون ووزارة الخارجية، في حين انحصر التأثير الخليجي داخل المكتب البيضاوي وحده دون آخرين.
وبات واضحًا أن الأمير القطري لا يجالس الخليجييـــن في مفاوضاته وإنما يفاوض الخليج عبر محطات أخرى أكثر فاعلية.. بل أثبت أنه لم يفقــد قدرته على التحرك بحرية بعد الإجراءات المتشددة من عواصم الخليج، واختار الهجوم طريقًا للدفاع، واستدعى شبابًا خليجييــن وحثهم على الثورة ضد أنظمتهم، لينتقل وبكل جرأة إلى مساحات من الصدام الأخطر على الجميع دون أن يهاب المارد السعودي المتأهب لهضم قطر وتغيير خارطة الحكم فيها كما كنا نتصور.
على أن الأزمة القطرية تحظى بنقاط إيجابية لا يمكن إغفالها.. فقد أثبتت التورط الخليجي ضد مصر منذ أيام حليفهم الأكبر حسنى مبارك، حيث حظى الأمير القطري بدعم خليجي للعبث باستقرار مصر وأمنها، بعد أن ثبت للعامة والخاصة أن عواصم الخليج كانت تعرف بدقة تحركات الدوحة ضد مصر على مدى سنوات طويلة ولم تحرك ساكنًا، بل وقفت ضد مصر عندما عبر رئيسها عن تدخل قطري بدعم الإرهاب في مصر وصاغوا بيانًا لتأديب القاهرة منذ عدة شهور قليلة ودافعوا عن قطر دفاعًا مستميتًا.
الخليج نفسه في ذهنية الغرب وأمريكا والقوى الكبرى ليس إلا بئر بترول وقطر جزء منه، وقد أدركت قطر ذلك في أزمتها فاستحضرت الأطراف الفاعلة ضد الخليج بدءًا من «أنقرة» مرورًا بـ«طهران» ووصولا إلى «واشنطن» وعواصم أوروبية أخرى اندلعت في الأزمة دعمًا لقطر وليس العكس.. باختصار أثبتت الأزمة أن قطر ليست دويلة صغرى وليست قناة فضائية أصدرت دولة وإنما أصبحت قوة كبرى وقادرة على تغيير خريطة المنطقة.
تبقى حقيقة تاريخية واحدة حاكمة هي التي ستكتب النهاية المحتومة للمنطقة برمتها، وهي أن الاستقلال الحقيقي هو قدرة الهوية على الصمود أمام العولمة وعدم الذوبان فيها، والمنطقة كلها لم تعد تملك مجرد رفاهية الإحساس الكاذب بالاستقلال!!