ريجا.. عروس البلطيق
ساعتان من مطار فرانكفورت باتجاه بحر البلطيق، كانتا كفيلتين بأن يعلن قائد طائرة لوفتهانزا عن نيته الهبوط بمطار ريجا الدولي.. وسط غابات من الأشجار، لا تزال ريجا عاصمة لاتفيا، تسبح فوق بحيرات وأنهار لا حصر لها.. بنايات تبدو من الأجواء العالية وكأنها ثمار حمراء تزهو وسط بحور من الخضرة المبهرة.. لحظات وقد عانقت عجلات الطائرة مطار ريجا الدولي، ومطار ريجا بُنى في عام ١٩٧٣م، وأُدخلت عليه عمليات تطوير متتابعة كان آخرها عام ٢٠١٣م.
يحمل المطار كود الاتحاد الدولي «آر آي إكس»، ويعتبر الوجهة الأكثر رحابة واتساعا لكل سكان البلطيق، إذ يفضله سكان ليتوانيا وإستونيا، إضافة إلى السكان المحليين لدولة لاتفيا، ويرتبط بعدد كبير من خطوط الباصات الدولية التي تنقل بسهولة ويسر سكان دول البلطيق إلى دولهم، إضافة إلى وجود أوتوستراد مهم وعدد من خطوط السكة الحديد وطرق انتقال زهيدة الثمن من وإلى المطار الأكثر شهرة في دول البلطيق.
ومطار ريجا الصغير يتسع يوما بعد يوم، ولدى الجهات خطط لتطويره كلما تطلبت الحاجة إلى ذلك، وأكثر حركات الطيران حيوية فيه الطيران الروسي الذي يقوم بأكثر من ثمانين رحلة أسبوعية، ويعمل عليه عدد من خطوط الطيران العالمية مثل البريطانية وطيران ويلز وخطوط بروكسل لوفتهانزا، إضافة إلى الطيران الوطني وهو رغم صغر حجمه بالقياس لمطار فرانكفورت، إلا أنه يعتبر الوجهة الأفضل والأيسر لسكان البلطيق.
زاد عدد مستخدمي مطار ريجا لأكثر من ٦٠ بالمائة بعد عام ١٩٩٣م عندما تم تطويره لاستيعاب العصر الجديد، وانطلقت كبريات شركات الطيران العالمية لاستخدامه باعتباره نقطة المركز في بحر البلطيق.
كل عشر دقائق حافلة تستطيع أن تنقلك إلى العاصمة الأكثر عراقة بالبلطيق.. إلى ريجا أو غيرها من مدن ليتوانيا وإستونيا.. والانتقال من وإلى المطار عملية ميسورة للغاية عبر العديد من وسائل المواصلات العامة والتاكسي والقطارات، ويقع المطار على بعد ١٣ كيلومترا جنوب العاصمة ريجا على ساحل البلطيق، ويشهد عمليات تطوير متواصلة لمواكبة حركة السفر من وإلى ريجا، والتي تتسع يوما بعد يوم خاصة بعد تزايد الأهمية الإستراتيجية للعاصمة اللاتفية في محيطها الأوروبي باعتبارها العضو الـ١٨ في دول الاتحاد الأوروبي.
على نهر واجا الكبير، يقع الفندق الذي أقمنا فيه بإطلالة ساحرة قلما تتكرر.. تستطيع من غرفتك أن ترى وجه المدينة التاريخية يعكس نفسه على صفحة النهر الخالد، في مشهد طبيعي بديع.. البنايات العتيقة تعانق ما استحدثه الإنسان اللاتفي بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١م، وهو عام الفكاك من الكتلة الشيوعية والانطلاق إلى المحيط الأوروبي الأكثر حرية ورحابة وتطورا.
في المدن القديمة تستطيع أن ترى بوضوح تجارب الشعوب، وريجا واحدة من العواصم العريقة تاريخيا.. ترى على وجه بناياتها سنوات المزج بين حضارات وفدت إليها احتلالا واغتصابا وتركت آثارها دون أن تطغى على هذا التراث اللاتفي العريق في العمارة التي دفعت اليونسكو لوضع المدينة القديمة، ضمن قوائم التراث العالمي خاصة مركز الآرت نوفو المهم والتاريخي.
التجول مرتجلا هو المتعة التي لا تضاهيها متعة، فأنت تسير بين شوارع متسعة خصصت للمشاة، تنطلق منها حارات قديمة بقدم الزمان، وقد زينت أرضياتها بالبازلت الأسود الذي أضاف إليها مسحة من الوقار والهيبة.. على النواصي يمكنك أن تطالع وجه التاريخ في عمارة إنسانية بديعة ومطاعم وبارات ومقاهٍ بعمر التاريخ.
لم يستطع المحتل الألماني الذي جاءها غازيا عبر قرون مضت، ولا المحتل السوفييتي عبر خمسين سنة أقام فيها، أن يغيّرا من تقاليد وعراقة الإنسان اللاتفي ولا قِيَمه ولا ارتباطه بأرضه وبلاده.. كان الروس ينقلون سكانا من لاتفيا إلى سيبيريا، وكان اللاتفيون يواجهون التهجير باصطحاب رغيف الجودر الأسود التقليدي، والذي يعتز به الشعب اللاتفي معتبرين إياه واحدا من تاريخهم وتراثهم.
درجة الحرارة خلال شهر مايو لا تقفز فوق خمس عشرة درجة نهارا.. تميل للانخفاض ليلا مع رياح تعاكس المارة على كباري المدينة القديمة دون أن تقف حائلًا أمام الشباب اللاتفي المحب لرياضة الدراجات.. أنت أمام شعب أوروبي من نوعية خاصة.. شعب لديه من التقاليد ما يجعله مميزا وكريما ومضيافا.. لم تسلبهم عجلة التطور الأوروبي المتسارعة خصوصيتهم في طعام مدهش وقيم متجذرة، وروح قومية لا تزال ترفض كل ما كان أيام الاحتلال وهيمنة الأقوياء على بلادهم.
في خمسة وعشرين عاما تغيرت العملة اللاتفية أربع مرات.. من الروبل الروسي أيام الحقبة السوفييتية، إلى الروبل اللاتفي في مرحلة الانتقال بعد الاستقلال، ثم العملة الوطنية «اللات»، ثم أخيرا إلى عملة الوطن الأكبر اليورو.. تنساب أنغام الموسيقى في شوارع لاتفيا وكأنك تعيش أجواء أسطورية بين أوركسترا لا تتوقف عن العزف على النواصي وفي الميادين لعازفين ومطربين يُمَتِّعون المارة بأصوات عذبة وموسيقى رائعة لا يجبرون المارة على التبرع ببعض الأموال.
التجول بين حارات قديمة وأزقة أقدم وشوارع رحبة، وميادين تزينها أعمال فنية عظيمة بتماثيل لكبار النحّاتين، متعة تدفعك إلى التريض سيرًا دون الحاجة إلى وضع نفسك في علبة من علب المواصلات العامة، المتوفرة بكثافة لا تجعل الشوارع تضج بزحام أو دخان أو عوادم أو ملوثات.
فنجان من القهوة على مقهى قديم داخل متحف إنساني عريق من البنايات الحمراء والصفراء، ولوحات تزين جدرانها؛ واحد من أهم ما تقوم به؛ حيث يشدك المقعد إليه دون كلل أو ملل، فأنت تعيش لحظات من الهدوء النفسي وسط عاصمة لا تزال تبوح بأسرارها للزائرين، وتنقل إليهم تجارب إنسانية عميقة لإرادة الشعوب التي تستنهض قواها بعزم لتصبح واحدة من أهم التجارب في الخروج من أزمة طاحنة إلى رحاب النمو في سنوات قليلة.
مبنى الأوبرا الوطنية المدهش يطل في واحد من أهم ميادين الثقافة العالمية وعلى مقربة منه تستطيع أن تتجول لتصل إلى متحف وطني يحكي قصة شعب عانى مع الاحتلال عبر تاريخه.. شعب كل جريرته موقعه الجغرافي الأهم في البلطيق.. قصص من الهيمنة والسطو الدولي على مقدرات أمة ظلت تناضل طوال تاريخها من أجل استقلالها فكان لها ولإرادتها الفوز في النهاية.