رئيس التحرير
عصام كامل

عتاب أم عقاب؟

فيتو

لم يصل كل ما كتب في الصحف الأوروبية وما صرح به وزراء خارجية ضد التوسع الاستيطاني في فلسطين إلى مرحلة العقاب، فهو يراوح بين عتاب بارد وعتاب أكثر دفئاً، لهذا فإن “تل أبيب” على ما يبدو، تعرف حدود ردود الأفعال عندما تتعلق بأوروبا أو الولايات المتحدة . ولو كان هناك أي شروع في المساءلة قبل المحاسبة ل “إسرائيل” على ما اقترفت من جرائم، لكان الأمر مختلفاً، لهذا فهي قد تستدعي سفراء أوروبيين، وقد تبدي التذمر من مواقف دولهم لكن ذلك كله محسوب، بل هو مدرج في استراتيجية وقائية، تهدف إلى إجهاض ومصادرة أية مساءلة دولية، ولأنها وضعت الفيتو الأمريكي تحت إبطها وحولته إلى بوليصة تأمين ضد الإدانة والتجريم، فهي لا تتعامل بجدية مع التصريحات الشاجبة لتمددها الاستيطاني .

فالعتاب له حدود نعرفها، والعقاب له لغة ونبرة لا تخطئها الأذن، لهذا فإن ما يحدث الآن هو دون العقاب بكثير، رغم أن هناك أنباء عن تداول الاتحاد الأوروبي خطوات عملية قد تقترب من العقاب أو على الأقل تنذر به، والمعتدون سواء كانوا مجرمين عاديين أو دولاً تسعى إلى الاحتلال والتمدد يعرفون بالتجربة الحد الفاصل بين العقاب والعتاب، خصوصاً إذا كانت بعض تجاربهم قد انتهت إلى تكريس وثواب سياسي، كما حدث في العدوان الأخير على غزة حين قالت الولايات المتحدة، إن من حق “تل أبيب” أن تدافع عن نفسها، ما أثار سخرية الكثير من الناس من هذا التعريف الأمريكي الجديد للدفاع عن النفس، خصوصاً أن الجيش الذي مارس كل الجرائم وقتل الأبرياء يسمى وفق هذا المعجم الغريب، “جيش الدفاع” . وإذا كانت هناك نذر من أي نوع للعقاب، فعلى الاتحاد الأوروبي أن يترجمه من الصيغة الأخلاقية الممنوعة من الصرف السياسي إلى عقاب فعلي، يكون الاقتصاد في الصميم منه، ولا يتوقف فقط عند مقاطعة ما تنتجه المستوطنات .
ستون عاماً والصهيونية تبتزّ أوروبا وتحلبها وتستخدم “الهولوكوست” في عواصمها كمسمار جحا الذي يعلق عليه كل شيء، سواء كان سكين القاتل أو قميص المقتول الملطخ بدمه .
ومن يدمن ردود أفعال محدودة ورمزية وقابلة للتدجين على جرائمه، يتوغل في سياسته بلا روادع، مادامت ردود الأفعال من النوع القابل للاحتمال والعبور أو هي من النوع المقدور عليه .
وحين اشترطت بعض دول أوروبا على السلطة الفلسطينية عدم مقاضاة الاحتلال أمام المحاكم الجنائية مقابل التصويت على الدولة كعضو مراقب، بدت تلك المقايضة غير متكافئة، فالعفو عما سلف ليس منوطاً بأي فلسطيني حتى لو كان ينطق باسم الأحياء، فالشهداء وضحايا المجازر لهم ناطقهم الرسمي والشعبي الخاص الذي يتشكل في فضاء فلسطين كلها من أصداء الاستغاثات التي لم تصل، والبرقيات التي أعادها ساعي البريد إلى مرسليها .
وإلى أن يتحول العتاب على اختلاف درجات برودته أو حرارته، إلى عقاب ستواصل “تل أبيب” استخفافها بردود الأفعال الدولية على كل ما تفعل .
والمسألة أبعد من قرصة أذن أو إبداء نواجذ، بحيث تختلط الابتسامة مع الوعيد، فالعقوبات لها وجود وتجليات ميدانية ولا تبقى مجمدة في نطاق التصريحات واستدعاء السفراء ونشر المقالات غير الملزمة حتى لأصحابها .
وبمقدور أي فلسطيني حتى لو كان تلميذاً في الابتدائية أن يقدم للعالم ومنه أوروبا والولايات المتحدة، قائمة بآلاف الانتهاكات التي مورست ضد شعبه خلال أكثر من ستة عقود، أما حكاية مَنْ يعفو عن مَنْ، فتلك ملك للتاريخ والذاكرة القومية، في عالم تتظاهر فيه بعض الشعوب على جرائم اقترفت ضدها قبل قرن أو ثلاثة قرون .
ما نخشاه أن يتحول العتاب بخطأ مطبعي إلى عقاب .
نقلاً عن الخليج الاماراتية
الجريدة الرسمية