رئيس التحرير
عصام كامل

«حنين العبادي» يحرر الترجمة من قيود النص إلى رحابة المعنى

فيتو

كان حنين باحثا يسعى إلى طلب العلم طوال حياته، حيث يقول إنه في سبيل الحصول على كتاب "البرهان" -لجالينوس الذي كان وجوده نادرا في زمانه- "إنني بحثت عنه بحثا دقيقا وجبت في طلبه أرجاء العراق وسوريا وفلسطين ومصر إلى أن وصلت إلى الإسكندرية، ولكن لم أظفر إلا بما يقرب من نصفه في دمشق".


إنه أبو زيد، حنين بن اسحق العبادي، ولد حنين في الحيرة عام 194 هجريا الموافق 810 ميلاديا، وكان والده صيدلانيا من أهل الحيرة في العراق، وله محل صغير لطب الأعشاب والنباتات، فنشأ حنين محبا لمهنة الطب تواقا لها، وكان إنسانا مؤمنا يواظب على الذهاب إلى الكنيسة حتى صار يخدم فيها، وتعلم في شبابه كتابة السريانية والفارسية إضافة إلى اللغة العربية التي أخذها من الخليل بن أحمد.

يذكر ابن أبي أصيبعة عن بداية شبابه قائلا: "إن أول ما حصل لحنين من الاجتهاد والعناية في صناعة الطب، سافر إلى بغداد ملتحقا بمجلس الطبيب يوحنا بن ماسويه" الذي كان مشرفا على أطباء البلاط العباسي.

ثم غاب عن أهله سنتين سافر فيها إلى بلاد الروم، قضاها في تعلم اللغة اليونانية التي كانت مصدرا رئيسا لتعلم الطب، وتوصل هناك في تحصيل بعض كتب الحكمة والطب وقراءتها، وكان حنين قبل أن يلتحق ببيت الحكمة شعث الشعر وينشد شعرا باليونانية، ثم سافر إلى بغداد وعمل مترجما في بيت الحكمة وذلك في نهاية عهد الخليفة هارون الرشيد تحت إشراف الحكيم جبرائيل بختيشوع، وقد ترجم إلى جبرائيل العديد من الكتب، وكان جبرائيل يخاطب حنين بكل احترام وتبجيل.

وحدث أن اطلع كبير الأطباء "يوحنا بن ماسويه" على ما ترجمه حنين من تلك الفصول من كتب "جالينوس" التي تسمى بالفاعلات، فأعجب بها وانبهر بحسن الترجمة والتعبير، فسأل الطبيب قائلا: "أترى المسيح قد أوحى في دهرنا إلى أحد؟!". فقيل ليوحنا إن هذه الترجمة المتقنة هي لحنين بن اسحق من أهل الحيرة الذي طردته من مجلسك وأمرته أن يصبح صرافا، وهكذا اعترف يوحنا أنه لم يقدر حنين حق قدره.

ولازم حنين يوحنا بن ماسويه الذي كان مشرفا على الترجمة في بيت الحكمة، وكان حنين عام "225هـ" شابا يبلغ الحادية والثلاثين من العمر وقد تمكن من قدر كبير من المعرفة.

كان الخليفة عبد الله المأمون في ذلك الوقت محبا للثقافة، ميالا إلى الفلسفة والحكمة، وكان بينه وبين إمبراطور الروم مراسلات، فكتب إلى امبرطور الروم يسأله في إنقاذ ما يختار من العلوم القديمة المحفوظة في خزائن الكتب في القسطنطينية من المؤلفات اليونانية وكانت غالبيتها في الطب والفلسفة، وساهم حنين في ترجمة هذه المؤلفات إلى العربية وإصلاح ما ينقله غيره من المترجمين.

قام حنين بسن طريقة جديدة في الترجمة اعتمدت على نقل المعنى الصحيح نقلا دقيقا محكما، استنادا إلى المعاني الشاملة لكل جملة ترد في النص، ومن ربط المعنى الكلي للجمل بعضها مع البعض الآخر، وحسب هذا الأسلوب يتكون مضمون الكتاب أو النص المترجم بعد أن كانت الترجمة حرفية.

كان حنين حريصا في ترجمته كل الحرص على أداء النص اليوناني أداء صادقا، وأعانه على ذلك أنه لم يكن مترجما أو ناقلا، كما يستهين به البعض وحسب، بل كان طبيبا بارعا وذو ثقافة.

كان حنين بالإضافة إلى كفاءته في النقل شديد الدقة في ترجماته، حيث كان يستعين بنصين أو ثلاثة ثم يصححها ويكتبها حتى تبدو كالأصل عناية واهتماما، كان يتخير اللفظ الملائم والتعبير الدقيق الذي كان من مستلزمات التأليف والترجمة، وهذه الأمانة في النقل جعلت الخليفة المأمون يجزل له العطاء.

ألف وترجم حنين في مجالات علمية متعددة أبرزها الطب والصيدلة، كما ألم بالطبيعيات والدين والأخلاق، وقد ألف فيها ثلاثة كتب، بالإضافة إلى ترجمته للتوراة، حسب النقل السبعيني، وترك حنين في الترجمة مدرسة علمية أو جيلا من المترجمين في العلوم المختلفة، أفادوا الثقافة العربية سواء أولئك الذين عملوا معه في بيت الحكمة أو الذين تفرقوا ليستمروا في ترجمة ما تبقى من التراثين اليوناني والسرياني.

ومن المؤسف أن معجم اللغة اليونانية والمعجم الآخر لحنين مفقودان، وقيل إن يشوع بن على الطبيب، وأحد تلامذة حنين قد أضافه إلى معجم اللغة السريانية الذي أعده.

تعرض حنين لمكيدة من طبيب المتوكل وانتهت بحبس حنين، ورمي كتب مكتبته، وإلقاء المياه في بيته، وقد بقي في السجن لمدة سنتين حتى مرض، فأطلق سراحه، وقد ذهب بعض المؤرخين أن حنين، مات فجأة من شدة الغم، وذلك في أواخر عام 260 هجريا الموافق 873 ميلاديا.

وكانت مؤلفاته لا تشمل طب البدن والأدوية وحسب، بل إنه تناول لأول مرة طب العيون، كما أن له مؤلفات في الدين والأخلاق، وآخر عن الأحجار الكريمة، وتم ترجمة أهم كتبه إلى اللاتينية في العصور الوسطى.

وصفه المؤرخ الفرنسي ليكرك: "كان حنين أبرز شخصية في القرن التاسع، وكان من أكبر العقول التي تحلت بأسمى الأخلاق التي يعثر عليها التاريخ، وهو من أكثر العلماء الذين ساهموا في حركة النهضة الفكرية في ذلك القرن".
الجريدة الرسمية