"أفق آخر" من الصَّوْملة إلى التمصير
حتى وقت قريب كان التحذير في مصر يضع أفغانستان والصومال نموذجاً، لكن المفاجأة هي التحذير الباكستاني الأخير على لسان زرداري عن التمصير، أي تكرار التجربة المصرية، فكيف حدث هذا التحوّل الانقلابي؟ وكيف تحوّل المثال إلى أمثولة؟
لم يذكر الرئيس الباكستاني أياً من التفاصيل وترك التحذير من التمصير غامضاً إلى حد ما، لكن ما توحي به تصريحاته يقترن ويتزامن مع الأزمة الدستورية في مصر التي لا تكون آخر الأزمات، مادام الخلاف بين الفرقاء تجذّر ولم يعد إجرائياً، فالقضاء إحدى ساحات هذا الصراع، وكذلك شكل الدولة وما إذا كانت مدنيّة عصرية أو دينية .
ولم يحدث من قبل أن تحول مصطلح التمصير إلى تحذير، لأنه كان يقتصر على اللهجة في الدراما، أو ما يسمى تمصير الأفلام والمسلسلات الأجنبية.
ويرى البعض في هذا التحذير الباكستاني مبالغةً، فمصر لم تصبح صومالاً آخر، ولم تتحول إلى طبعة جديدة من الأفغنة، لأنها في طور التجريب وفي فترة انتقالية طال أمدها، ربما بسبب حالة الخمول السياسي التي استمرت عقوداً، أو بسبب نتائج انتخابات وصفت بأنها أقرب إلى النكاية، لأن هناك من انتخبوا أحد المرشحين إلى الرئاسة نكاية بمنافسه، ومثل هذه التجارب سرعان ما تنتهي إلى إعادة نظر لكن بعد فوات الأوان ولأربع سنوات مقبلة.
المثير في تداول مصطلح التمصير أن مصر كانت لزمن طويل من الدول غير المرشحة لنزاعات تدرجها في قائمة الدول الفاشلة، أو الأقل حظاً في الاستقرار والوئام الوطني، فهل كان تفكيك الدولة هو الجرعة العالية التي لم تحتملها مصر ذات الدولة العميقة والعريقة والمحافظة إلى حد ما؟ أو أن هناك ما هو مؤجل ويتفاقم تحت السطح بحيث انفجر دفعة واحدة؟
هنا قد يجر السؤال أسئلة لكن الإجابة تبقى واحدة، وهي أن الاستقرار بمعناه الدقيق والتوافقي لم يعد قريب المنال في مصر بعد الأزمة الدستورية، لأنها ليست أزمة عابرة، بل هي عن مسألة عامة وذات سمة مرجعيّة على الصعيدين السياسي والقانوني. وإذا صحَّ للمراقب أن يقسم المشهد إلى موالاة ومعارضة، وهي الثنائية الشائعة الآن في النطاق العربي، فإن للموالاة في مصر صفة حزبية تتجاوز ما كان يسمى "نَفِّذْ ثم ناقشْ" إلى "اسْمَعْ وأطِعْ"، ما يجعل من تدوير الزوايا الحادة والوصول إلى ائتلاف أمراً بالغ العسر.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن مصر تعاني أزمات عدة متزامنة ومزمنة، فإن غياب التوافق على حد أدنى، سيكون بالتأكيد منذراً بتفاقم تلك الأزمات وفي مقدمتها أزمة اقتصادية لم تعد تقبل التأجيل والمماطلة.
كانت مصر ذات يوم أمثولة مضادة لما أوحى به الرئيس الباكستاني وكان السلم الأهلي فيها، رغم ما ينتابه من اختلالات موسمية غالباً ما تأتي من خارج البلاد، ينأى كثيراً عن الصوملة والأفغنة، لأن جذور التمدن بعيدة في باطن التاريخ المصري، وكان التعايش لأزمنة طويلة مناخاً سائداً، خصوصاً عندما تتعرض مصر لأخطار خارجية أو داخلية أو كليهما معاً.
وقد سبق للمصريين أن بشروا بتتريك التجربة في بلادهم، خصوصاً في المجال الاقتصادي، أو اتخاذ ماليزيا نموذجاً، مقابل آخرين راهنوا على أصالة وعمق تجربة مصر، بحيث لا تقبل النسخ أو التماهي، لكن أن يصبح التمصير خطراً يهدد دولاً آسيوية مثل باكستان، فذلك أمر جديد لكنه غير عابر.
نقلاً عن الخليج الإماراتية