التزويغ من أجل البقاء!!
روى لنا صديقنا الوزير السابق، كيف يستقر الفساد في المجتمع ويصبح واحدًا من مفردات الحياة الاعتيادية.. جزءا من ممارساتنا اليومية.. كيف استخدمنا القرآن والأحاديث لترسيخ مبادئ الفساد.. كيف اختطفنا النصوص لخدمة الغول المتوحش في أعماقنا؟ كيف أضحت الوساطة جزءًا من دعم الناس بعضهم لبعض وليست اختطاف فرص المساواة، بل كيف تصبح الوساطة عملًا حميدًا يدخل أصحابه الجنة.. كما اختطف السلطان نصوص الطاعة اختطف المفسدون نصوصًا كثيرة لشرعنة الفساد.
وقف الوزير معارضًا زيادة أسعار تذاكر القطارات قبل دراسة أسباب الخسائر.. درسوا القضية بدقة فتبين لهم أن ٩٠٪ من ركاب القطارات يزوغون أي لا يدفعون ثمن التذاكر.. في الجلسة التالية لمجلس الوزراء عرضوا أمر زيادة التذاكر.. وقف الوزير مخاطبا الجميع ومعلنا عن مفاجأته المدوية ٩٠٪ من ركاب القطارات يركبونها مجانا.. يهربون من دفع التذاكر.. باختصار ٩٠٪ من الركاب فاسدون!!
سيطرت الأحاديث الجانبية على الحضور وسرت همهمات وصلت إلى حد الصوت العالي، وما بين منذر بخطر ذلك على الحركة الاقتصادية للقطارات وبين الرافضين لهذا السلوك المعيب وبين وزير أوقاف يعلن عن ضرورة إيضاح خطر التزويغ واعتباره جريمة سرقة متعمدة يحاسب عليها الله، وأعلن وزير المالية عن غضبه بسبب ضياع كل هذه الأموال وبين رئيس وزراء مندهش من الرقم الصعب وبين وزير النقل الذي ارتاح لقراره بعدم الزيادة قبل دراسة الأمر.
بين كل هذه التداخلات كان لوزيرة التضامن رأى آخر وحاسم.. قالت: يا سادة إياكم أن تقتربوا من هذه القضية.. لا تحاولوا تحصيل التذاكر والتضييق على الناس لأننا نعرف هذه الحقيقة قبل أن تعرفونها.. إننا على يقين من ذلك ولدينا حقائق أخرى أكثر صعوبة.. طالبت الجميع بـ"أن يكفوا على الخبر ماجور" وألا يذكروه وأن يتجاهلوه تماما وألا تأخذهم الحمية فيتخذوا قرارا غير منصف وغير واقعى.
اندهش الحضور لموقف الوزيرة، وكيف لها أن تطالب مجلس الوزراء أن يصمت على فساد مزعج يطال ٩٠٪ من ركاب القطارات؟.. كيف نضحى بأموال عامة يستفيد منها المجتمع نفسه الذي يسرقها؟ وإن كان فكيف نطالب الوزارات بتحصيل حقوق الدولة لدى الناس؟.. أحدهم انبرى معلنا التحدى ضد تمرد الركاب.. ضد السادة المزوغين.. ضد كل من تسول له نفسه أن يأكل حق الدولة وإلا تحولنا إلى غابة.
قالت الوزيرة بهدوء: المواطن الذي يكون إجمالي دخله ما بين خمسمائة جنيه وألف جنيه لا بد وأن تعرفوا أنكم صامتون على جريمة وصوله إلى هذا المستوى المتدنى من الحياة، وعليه لا بد وأن تعرفوا أن مقابل صمتنا على ذلك فإن هذا المواطن يزوغ في القطار ولا يدفع التذكرة.. أيضا لا بد وأن تعرفوا أنه يسرق التيار الكهربائى ولا يدفع فاتورة المياه وفي معظم الأحيان لديه طريقة في الحصول على مياه الشرب بعيدا عن عداد الحكومة وأمور أخرى كثيرة لابد وأن تتوقعوها.. واختتمت: المواطن بيتصرف يا جماعة!!
هنا لا بد وأن نعلن إعجابنا بالوزيرة فالصمت لا بد وأن يقابله صمت.. هذا فساد في الرأس ولا بد وأن يصل إلى الجسد.. الحكومة فاسدة لأنها تتصور أن المواطن الذي دخله ألف جنيه عليه أن يدفع كهرباء وماء وتذاكر.. إن دفع كل هذا مات جوعا أو انفجر في وجه الدولة وطرق الانفجار كثيرة.. إذن الحل أن نحمى السادة المزوغين وأن نترك لهم فرصة التزويغ دون أن نمنحهم حق الركوب بالمجان فالأساس أن يشعر المواطن بسعادة عندما يسرق الحكومة أو يسترد حقه من الدولة أو يدافع عن وجوده وبقائه ويصبح من حق الحكومة أن تستمتع بتذكير المواطن بلصوصيته وأنها "علمت عليه" والمواطن سعيد أيضا بأن الحكومة غير قادرة على مواجهة حيله في التزويغ أو سرقة الكهرباء والماء.
معادلة عبقرية في التوازن لم يكن يفهمها معظم أعضاء مجلس الوزراء، لأنهم ليسوا من السادة المزوغين أو لأن معظمهم يدخل في فئة تزويغ أكبر لا نفهمه نحن مزوغى القطارات.. كلنا "مزوغين".. الكبار الذين يطالبون الشعب بالتحمل أيضا ضمن فئات أعلى من التزويغ والذين يتحدثون عن الجنة التي تنتظر الفقراء دون الأغنياء هم أيضا ضمن فئات خاصة من التزويغ والذين يتحدثون عن حماية الطبقات الاجتماعية الأقل أيضا يمارسون تزويغا من نوع آخر على أن أشرف فئة هي تلك الفئة التي تمارس التزويغ من أجل الحياة.. نعم من أجل البقاء!!!