رئيس التحرير
عصام كامل

أتنكرني يا سمعان ؟!


كانت نفسه تئن إزاء المخلص بينما خاف أن يقترب بسبب الذئاب المحيطة به، وحتمًا دمعت عيناه واعتصرت ألمًا ولم يكن يقدر أن يبكي لئلا يرآه الشعب.. كان وجهه مبتسمًا بينما فكره كان قلقًا كالبحر حين تضطرب أمواجه وتعلو جدًا.. إنه القديس بطرس الرسول.


لقد أخذوا السيد المسيح حيث رئيس الكهنة ليحاكموه "وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع، وكان ذلك التلميذ معروفًا عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، وأما بطرس فكان واقفًا عند الباب خارجًا. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة، وكلم البوابة فأدخل بطرس". (يو18: 15-16)

وقف بطرس عند البوابة (خارج قاعة دار قيافا رئيس الكهنة) ليتابع في خوف ماذا يحدث وفجأة سألته البوابة: ألست أنت أيضا من تلاميذ هذا الإنسان؟ وفي دهشة عجيبة أنكر بطرس السيد المسيح.. لقد ارتفع الموج عليه فخاف لئلا يغرق باعترافه فكذب وقال إنه لا يعرفه.. فبدأ يحلف ويقول إني لا أعرف الرجل.. لقد دخلت الخطئية إليه فظلمت نفسه.. دخل إليه الخوف وألقى بشباكه فجني كذبًا وإنكارا !!

ثم انسحب من الموقع إلى مدخل القاعة يستدفئ مع العبيد والخدام، حيث أضرموا جمرًا لأنه كان بردًا، وذلك بالدهليز (مساحة الأرض الفارغة بين البوابة ودار رئيس الكهنة) ظانًا بذلك أنه من الممكن أن تهدأ العاصفة قليلًا عنه ولكنها عادت أيضًا لتهب عليه ولكن بقوة أكبر.. فسألوه هناك ألست أنت أيضا من تلاميذه؟ فأنكر أيضًا وقال لستُ أنا !! وغرق سمعان للمرة الثانية في هوة الكذب العظمى وبدلًا من أن يتبع بمحبته معلمه، أحاط بإنكار عظيم.. سمعان الذي أبغض العالم وتبع ابن الله نكره علنًا!.. ليس هذا فحسب بل صعقه الثالث (واحد من عبيد رئيس الكهنة، وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه) حينما سأله: أما رأيتك أنا معه في البستان ؟! فأنكر في خوف للمرة الثالثة وغطاه الفيض وأمواج الكذب المضطربة..

وللوقت صاح الديك وتذكر سمعان كلمة الابن.. نظر إلى نفسه ووجد بأنه سقط في قمة الضعف.. ذم ذاته لأنه عوض محبة التلمذة انحدر إلى هوة الكذب العميقة، وحينئذ دخل ضميره وجلس ضده مثل الحاكم، وكان يُجلد بالأفكار كما لو كان كالقضبان.. نظر إليه السيد المسيح فخجل سمعان وأطرق رأسه لأسفل ليصطدم بحوار صامت!.. لماذا تنكرني يا سمعان؟! ألست انت من كان قربي عند تحويل الماء إلى خمر ؟! ألست أنت من كان معي وقت التجلي ؟ّ ألست أنت من عاين إقامة ابنة يايروس؟! ألست أنت من أجاب في تحد "لو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك".

خرج سمعان ونفسه تعتصر ألمًا مناجيًا نفسه قائلًا: كان أولى بي أن أتعذب معه لما كان يتعذب، وأن يضربونني أيضًا لما كان يُلطم.. أين أذهب لأفتش عن حياتي التي تكاد أن تهلك بعيدًا عنه وهو الحياة كلها، وبمن اعترف بعد أن أنكرت ؟! ربما ناجى نفسه أيضًا سرًا وناشد التلاميذ صارخًا: ليبك لأجلي بمرارة رفقائي العشرة، فكان من الأفضل أن أهرب كما هربوا من أن أنكر.. ابك يا توما على ذنب سمعان أخيك لأنه أنكر الابن أمام الجموع.. ولول يا يعقوب ومعك متى وبرثلماؤس بسبب خبر جريمتي التي اقترفت اليوم..

يا يوحنا معلم الأسرار هلم وأبك علئ.. ياليتك ما أدخلتني معك !! ابك علئ يا والدة الإله لأنني الآن في نظر نفسي مثل قيافا وذنبي أصعب من أن يُحتمل.. لأني قبل أن أدخل إلى دار رئيس الكهنة كنت تلميذًا أما الآن فأنا مع الناكرين.. لقد أنكرت النور، وها أنا واقف في الظلمة الآن.. لقد أبغضت النهار وأحاطني الليل من كل الجهات.. من يعطيني الآن أن أتألم معه وأمحي ذنبي.. ليتني أجد فرصة لأحتمل معه الإهانة والشتم والاضطهاد.

وفيما دخل الضيق إلى نفسه وطمره من كل الجهات ولما كان ندمه شديدًا مثُلت أمامه النعمه قائلة: هلم يا سمعان واجلب دموع التوبة وابك ولا تهدأ.. جرحك عظيم وهذا يتطلب توبة عظيمة.. هلم نذهب عند العدالة لتضع توسلات أمامها.. خذ لك الدموع رفيقه وادخلها معك.. عطر البكاء وبدل البخور أضرم التنهدات فنار الإثم لا تطفئها سوى التوبة وخذ معك الرجاء أيضًا رفيق حتى تكمل توبتك ولا يعرقلها يأس مُميت..

خرج سمعان وبكى بكاءً مرًا وربما أيضًا صلى قائلًا: ربي.. ها أمواج الإثم أحاطت بي وأغرقتني فتعال وأنقذني، كما أنت معتاد.. ربي هب لي أن أتجاسر وأقول: تعال واظهر حنانك فئ أنا الذي اقترفت ذنب عظيم.. لقد نبع فئ جرح الإنكار وها أنه يؤلمني فتعال أيها الطبيب الحقيقي واسكب علئ دواءك لاُشفي به.. حقًا ركع سمعان على عتبة مراحم الأبن وهو يصرخ لتفتح لجاجته باب الرحمة.. حقًا استطاعت التوبة أن تُسكت عنه يأس التجربة ورعد هذا الإنكار العظيم..

حقًا كاد سمعان أن يفقد حياته بالإنكار ولكنه بالتوبة عاد إلى مرتبته وصار بطرس الصخرة القوية الذي سيُصلب بعد أن يملأ الدنيا بكرازته ويؤمن بواسطته الكثيرين..

حقًا " التوبةُ هي ترياقٌ لأوجاعِ الخطيةِ القاتلة، وعذابٌ عظيمٌ للشيطانِ مضادها، إنها تُخلِّصُ وتعتق المسبيين الذين سُبوا بشرِّهِ، وأتعابُه التي تعبها في سنين كثيرةٍ، تُضيِّعها التوبةُ في ساعةٍ واحدةٍ، والعبيدُ الذين بمشيئتِهم أخضعوا حريتَهم له، تعيدُهم إلى ميراثِهم، وتعذِّب مَن خدعوهم. زرعُ الشوكِ الذي زُرع بأرضنا، ورُبيَ بحرصٍ في سنين كثيرةٍ، في يومٍ واحدٍ تحرقه، وتطهِّر أرضَنا، حتى تعطي أثمارَ ثلاثين وستين ومائة". القديس يوحنا سابا

الجريدة الرسمية