فقراؤنا إلى أين؟
حديثنا إذًا عن الفقراء لم ينته.. فما زالت العبارة التي كان يرددها فقراء قريتي، تطن في أذني، حينما تقع حادثة لأحد فقراء القرية تردد أمي: إنه "موت وخراب ديار".. وعادة ما كانت تترد هذه العبارة في الحوادث التي يموت فيها عائل الأسرة، ويخسر معها وسيلة كسب الرزق.. كأن يموت في سيارته التي لم يكتمل دفع أقساطها.. فيموت العائل تاركًا لأسرته كارثة لم يكن هو وحده بطلها، وإنما "السيارة" التي كانت تنفق على أبنائه.. فتظل الأسرة تسدد أقساط سيارة قد "أُتلِفَت" أو "جاموسة" ماتت!
لقد ظلت هذه العبارة بالذات تطاردني سنوات، وتدفعني دائمًا إلى البحث عن وسيلة لحماية الديار من الخراب.. فإذا كنا حتمًا لا نستطيع أن نوقف قدر "الموت" فإننا حتمًا قادرون على منع الديار من الخراب!
وحتى نَمنَع "الديار من الخراب" علينا أولًا أن نُقِرَّ بأن "أفقر" الفقراء هم الأسر التي فقدت عائلها، وفقدت معه وسيلة كسب الرزق.. فإذا كان أفقر البشر حسب التقارير الدولية هم النساء، فإن أفقر النساء هى المرأة التي مات زوجها. وإّذا كانت أفقر النساء التي مات أزواجهن هى المرأة التي"لا تعمل" وهى متعلمة، فإن أفقر منها المرأة التي "حُرِمت" من التعليم، ولم تجد لها فرصة عمل!
كما أنه علينا ثانيًا أن نُقِرَّ بأن الحكومات جميعها وليس مصر وحدها لا تملك مقاييسًا عادلة لتحديد من هُم الفقراء؛ ولهذا فدائمًا تتحدث حكوماتنا الفقيرة بأن "دعمها" عادة ما يصل إلى غير مستحقيه.. وربما تكون الدولة محقة في ذلك.. لهذا يكفينا في هذا المقال أن نحدد من هُم الأكثر فقرًا؟
ثالثًا يجب أيضًا علينا أن نُقِرَّ بأنه حينما تتراوح نسبة الفقراء في مجتمع من 40 % إلى 60 % فمن العبث أن تعزل الحكومة الفقراء، وتتحدث عن سياسات عادلة وفعالة لمواجهة الفقر.. فعادة ما تعتبر هذه السياسات مهدرة للوقت والمال والجهد.. إذ إن وضع سياسات تستهدف الفقراء وحدهم؛ عادة ما يسمح بتضخم هذه الفئة؛ حيث يسقط أبناء "الطبقة الوسطى" فيها، وقتما تقرر الحكومة حرمانهم من "الدعم"!
رابعًا يجب على الدولة أن تفرق في مشاريعها بين المشاريع الاجتماعية ذات العائد "الاقتصادي" كـ الصندوق الاجتماعي للتنمية.. والمشروعات الاقتصادية ذات العائد "الاجتماعي" كـ البنوك والشركات.. فالنوع الأول لا بد أن يكون منحازًا لصالح الفقراء وليس لـ" رأس المال" كالنوع الثاني.. وإذا أُجيز للمصرفي أو "البنكير" رئاسة المشروعات الاقتصادية؛ فإن رئاسة "المصرفي" للمشروعات الاجتماعية يعتبر جريمة في حق الفقراء وبرامج التنمية معًا!
وهنا لا بد أن نؤكد على أن عزم الحكومة على تحويل الصندوق الاجتماعي إلى جهاز لتنمية المشروعات الصغيرة يلزمه أن يكون رئيس الجهاز والعاملين فيه "تنمويين" وليس "مصرفيين"؛ وإلا أصبحت هذه التغييرات مجرد حبر على ورق!
فعادة ما يصم المصرفيون آذانهم عن نصائح التنمويين ويعتبرونها بمثابة إهدار للمال.. ويتعاملون مع برامج مواجهة الفقر بمبدأ المكسب والخسارة.. ويحسب نجاحهم في إدارة مؤسساتهم بحجم الأرباح التي تحققت من جراء إقراض الفقراء، وليس بعدد الفقراء الذين تجاوزوا خط الفقر!
خامسًا لا بد للدولة أن تدرك أن تحاملها على الفقراء لن يأت لها بخير.. فليس من المعقول أن تتجاوز الزيادة في الأسعار 200% و300 % وتبقى الدخول في حالة ثبات دائم.. فإذا كانت الدولة جادة في إحداث التغيير فلا يجب أن تكون التغيرات عاصفة.. فتقتلع الاستقرار من بطن المجتمع، وتدفع البسطاء إلى الجريمة.. فتحتاج الدولة إلى مواجهة الجرائم وإعادة الاستقرار، أموال تفوق بكثير تلك التي تحتاج إليها لمواجهة الفقر.. فعادة ما تكون الحكومات مجبرة على توفير "الغاز المسيل للدموع"، ولكنها ليست مجبرة على توفير رغيف العيش!
سادسًا إن "إعمار الديار" يتطلب من الدولة تحديد الفئات التي في مهب الريح، وحمايتها من الوقوع في براثن الجوع والجريمة.. فعادة ما يكون "التقاعد" المبكر وسن "المعاش" كارثة؛ تجعل ديار أصحابها معرضة للخراب.. فــ " 80% " من رواتب العاملين في الحكومة حوافز ومكافآت وبدلات وخلافة، عادة ما تُخصَم مباشرةً من العاملين فور بلوغهم سن المعاش!
ومن ثم فلا تستطيع أسر المتقاعد العيش في نفس المستوى الذي كانت تعيشه من قبل.. وهذا عادة ما يدفع إلى أحد أمرين: إما أن يثور كبار الموظفين على أخلاق العمل؛ فيحرصوا على تجميع أكبر المكاسب المادية، وبجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة؛ بدعوى "تأمين ديارهم" من الانهيار عند التقاعد؛ وهذا يفتح بابًا للفساد لا يمكن إغلاقه، ويكلف الدولة الكثير.. وإما أن يرضخ الأفراد لأخلاق العمل، فيتقبلون أوضاعهم المعيشية الجديدة، فحين يعجزون عن سد إيجار الشقق ينقلون أسرهم إلى أحياء سكنية أقل، وينقلون أطفالهم إلى مدارس أدنى! ولعل فيلمي "الحفيد" و"أبو العروسة" الذي كان بطله النجم الراحل " عماد حمدي " خير مجسدٍ لهذه التجربة الأليمة!
إن "إعمار الديار" يحتاج من الدولة أن تمتلك سياساتٍ حمائيةٍ واضحة، تحمي أسر أصحاب الحوادث والنكبات- التي تُفضي بأصحابِها إلى العجزِ أو الموت - من الانهيار.. بعيدًا عن السياسات "الضمانية" التقليدية، التي تكتفي بتعويض المصاب بمبلغ مالي زهيد ؛ عادة لا يكفي لـ"دفن" الميت!
على الدولة أن تتبنى مدخلًا تنمويًا للحماية الاجتماعية للفقراء يعامل الفقراء كـ"مَرضى" على الدولة أن تساعدهم حتى يشفوا.. ولا يجب على الدولة أن تساعدهم حتى الموت!