الشيخ محمود شلتوت يستقبل رمضان بمقال «مواسم الرحمة»
في مجلة الأزهر عام 1376 هــ كتب الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر عام 1958) مقالا، جاء فيه:
«إخواني وأبنائي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها..
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبالسلام أحييكم أصدق تحية من عند الله طيبة مباركة، أوجهها إليكم عنوانا على ما بيننا من الأخوة المشتركة والمحبة الصادقة والإيمان بالله ورسوله.
إن الله في علمه الخلق والاصطفاف، فهو يخلق ما يشاء لما يشاء، ويصطفي من يشاء لما يشاء، يخلق البشر ويصطفي منهم للعبادة من يشاء، يصطفي الأنبياء والمرسلين، ويصطفي العلماء والفلاسفة، يصطفي القواد والمصلحين.
يخلق الأمكنة ويصطفي منها مهابط الوحي ومنابت الذكريات، يصطفي فيها على سائر الأماكن، ويجعل أفئدة من الناس تهوي إليها، ويخلق الأزمنة ويصطفي منها مواسم لرحمته، وأياما وليالى لنعمه وأفضاله.
وعلى سنة الاصطفاف اصطفى الله شهر رمضان، وكان هو الشهر الذي تهتز له قلوب المؤمنين ويذكرون به نعم الله وأفضاله، ويرقبون فيه رحمته ورضوانه، وكان مصدر اصطفاء رمضان عدة أمور:
أولا- إنه الشهر الوحيد الذي صرح القرآن باسمه.
ثانيا- هو الشهر الوحيد الذي ظهرت فيه أكبر النعم على عباده، وهى كتابه الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
ثالثا- إنه فرض الصوم وجعل الصوم فريضة محكمة، من أنكرها فقد خرج من دائرة الإسلام، واستحق اللعنة الأبدية وحرم جميع خصائص المسلمين.
وصوم رمضان عبادة تلتقي في هدفها مع أهداف القرآن، كلاهما يربي العقول ويسمو بالأرواح.
ولرمضان في صومه مظهر خاص، فهو يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعا طبيعة الإنابة والرجوع إلى الله، ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس ويعفها عن الإيذاء والتجريح، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر، ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة.
وشهر رمضان هو شهر الذكريات الإسلامية الأولى، ففيه نزل القرآن الكريم (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وفيه يذكر المسلمون تثبيت دعائم الإسلام بكبح جماح الشرك، وذلك مانراه في غزوة بدر.
إن الصوم حرمان من الطعام والشراب وما ألفه الإنسان من شهوات، ويجب أن ننتبه إلى أن هذا الحرمان هو مقصود الله من الصوم، وإنما مقصود من عباده إعداد نفوسهم بالصوم للخير والتقوى.
وقد عني القرآن عناية خاصة بفريضة الصوم، وجعل منها مظهر وحدة المسلمين باختلاف أماكنهم وألسنتهم وجنسياتهم.
وأمام هذه الوحدة التي يرسمها الإسلام للمسلمين ويضع خطوطها شهر رمضان، وأمام هذا كله أهنئكم بشهر رمضان، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين في جميع الأقطار إلى التكاتف والتعاون والتراحم، وسد منافذ الشر التي فتحها الاستعمار والاستغلال».