«اكتشام».. النور القادم من تركيا
كما فيها لصوص فيها شرفاء، وكما فيها ديكتاتور كبير فيها من يؤمنون بالحرية سبيلا، وبالديمقراطية منهاجا.. كما فيها منكرون لتاريخهم الأسود ضد البشرية، فيها عظماء يعترفون بما ارتكبه أجدادهم في حق الشعوب.. كما فيها «أردوغان» فيها «تانير اكتشام».. عن تركيا العريقة أحدثكم.
وعن جريمة الأتراك ضد الإنسانية عام ١٩١٥م.. عام مذابح الأتراك ضد الأرمن أحدثكم.. في هذا التاريخ اقترفت الإمبراطورية العثمانية واحدة من أبشع جرائم التاريخ الإنساني، عندما أقدمت على قتل قرابة المليون ونصف المليون من الأرمن العزّل.. قتلوهم بدماء باردة.. ذبحوا الأطفال ومثلوا بجثث الشباب ووأدوا البنات وطاردوا النساء، وكانت مصر في ذلك التاريخ هي أحد الصدور الرحبة التي احتضنت الأرمن واستقبلتهم وآوتهم فعاشوا بيننا كما نعيش، وساهموا في تقدم الأمة المصرية وصنعوا لأنفسهم ولنا تاريخًا من العيش المشترك.
منذ ذلك التاريخ؛ والأتراك يرفضون الاعتراف بجريمتهم، ومنذ ذلك التاريخ والأرمن يلهثون وراء قضيتهم الأم.. حق الضحايا في اعتراف واضح من جانب القاتل المنكر لجريمته.. حتى عام ٢٠١٠م كان اعتراف أي تركي بمذابح أجدادهم ضد الأرمن خيانة وجريمة تستحق الاغتيال، وكان «هرانت دينك» الأرمني التركي واحدًا من أهم ضحايا هذه النظرة العنصرية، عندما اغتالوه، لأنه قال حقا يريد به أن يرفع العار عن الأجيال التركية الجديدة.
بعد هذا التاريخ وقبله، كان المؤرخ والبروفيسيور التركى «تانير اكتشام» واحدًا من الفرسان النبلاء الذي اعترف مبكرًا بمذابح الأتراك ضد الأرمن.. لم يعترف ويلزم داره.. اعترف واعتبر أن هذه القضية قضيته، وظل يغلف هذا الاعتراف بإنسانية راقية دفاعًا عن الديمقراطية التركية التي - كما يراها- لا يجوز أن تعيش بإنكار واقع أليم ارتكبته الإمبراطورية العثمانية ضد شعب أعزل.
ظل «تانير» يناضل بين الأوراق القديمة والوثائق الحبيسة في إنجلترا وفرنسا والقدس والقاهرة، حتى وصفته الصحافة الأمريكية بـ«شارلوك هولمز» الإبادة الأرمنية، ورغم أنه يعيش في أمريكا ويحاضر في جامعة كلارك بولاية ماساتشوسيتس، إلا أنه ظل إلى يومنا هذا يعيش أياما من الصمت ليعود بوثيقة يوقظ بها ضمير العالم من جديد، ويواجه أيضا خطر الاغتيال والتهديد والاتهامات دون أن يكل أو يمل.
خاطب «تانير» المحافل الدولية، وحاضر في جامعات العالم، وأصدر الكتب ونشر الوثائق.. وثائق جريمة العصر التي ينكرها حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، فأصبح هاجسًا يطاردهم في أسرتهم وحوّل أحلامهم إلى كوابيس مزعجة، ولم يتوقف عن المطالبة بضرورة الاعتراف حتى تعيش التجربة الديمقراطية التركية، حيث يرى أنه لا حرية مع إنكار جريمة ضد الإنسانية.. ألم أقل لكم «كما فيها أردوغان فإن فيها تانير اكتشام»؟!!
آخر مفاجآت «تانير اكتشام» المدوية؛ وثيقة أصلية حصل عليها بجهود جبارة.. برقية تلغراف مشفرة أرسلها مسئول رفيع المستوى، وعضو مؤسس في جماعة الاتحاد والترقى العنصرية، التي كانت تحكم وقت الإبادة ويدعى «بهاء الدين شاكر».. أرسلها إلى أحد قادة ميدان المذابح، تحكي بالتفاصيل صدور قرارات التخلص من الأرمن وتهجيرهم، وهي واحدة من الوثائق التي ادعت تركيا أنها فُقدت مع كافة وثائق المحاكمات العسكرية التي جرت بهذا الشأن بعد المذابح.
ولكن؛ ما هي حكاية الوثيقة؟.. وكيف حصل عليها المناضل الإنساني تانير اكتشام، وقد قارب على الرابعة والستين من عمره دون أن يفقد الأمل في الوصول إلى وثائق أصلية؟!!
بعد المذابح خشي بعض قادة الأرمن من اختفاء وثائق المذابح، فأرسلوا ٢٤ صندوقًا من وثائق هذه المحاكمات إلى إنجلترا، ثم نقلت إلى فرنسا، وظلت في طي الكتمان، وفي عام ١٩٤٠م كان هناك راهب مهتم بهذا الشأن قد جاء إلى القاهرة، والتقى أحد قضاة المذبحة الأتراك، وعرف منه أن الوثائق نقلت إلى أحد الرهبان في القدس.. سافر إلى القدس واستطاع أن يحصل على صور من هذه الوثائق، كما حصل على وثيقة أصلية هي التي وصل إليها تانير اكتشام ليزيل الغموض تماما عن هذه الجريمة النكراء.
قال «اكتشام» عن وثيقته النادرة في زمن الكتمان، إنها تمثل سقوط آخر «طوبة» في جدار الإنكار.. أطلق الوثيقة بعد أن فك شفرتها، وفيها تفاصيل مثيرة عن العمل الميدانى لتفاصيل عمليات القتل والذبح والتهجير والمطاردة.. أعلن اكتشام عن اكتشافه ليحتفى العالم كله بإنسانية اكتشام، ويزيل الغموض عن واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
ما أعظم أن يعيش الإنسان إنسانيته حتى لو وصفوه بالخائن.. ما أجمل أن يطغى الإسهام الحضاري على كل محاولات ديكتاتور تركيا الجديد أردوغان.. ما أبهى صور الحرية في مواجهة العتمة.. إننا أمام نموذجين تركيين؛ أحدهما انفرد بالسلطة، ومارس بها الإنكار، أما الثاني فقد انفرد بالإنسانية وحقق بها الضربة القاضية من أجل بلاده، ومن أجل حريتها، ومن أجل إزالة العار عن الأجيال الجديدة في تركيا النور، لا تركيا أردوغان!!