رئيس التحرير
عصام كامل

قلعـــــة ماكيــــروس !!


إنها حفلة كان قد أقامها الملك هيرودس تذكار ميلاده فصنع وليمة لأكابر مملكته ومقدمي الجليل. وحضرت ابنة أخيه. فرقصت في الوسط. فأعجبته جدًا ودون أن يدروا جُعل رقصها فخًا لبني الإثم، فنصبه الشرير لكل المتكأ ليصطادهم وصارت اضحوكه عظمى على جبابرة المملكة. وجدير بالذكر أن هيرودس كان واحدًا من القضاة الذين مثل يسوع أمامهم، وأخذ يجادل يسوع ويسأله (لو 23: 7- 12، اع 4: 27) وهو الذي سماه يسوع ثعلبًا (لو 13: 32)..


منظر القصر كان مهيبًا بالملك ورفقائه، حيث كان كل المراؤون يحرصون أن يُظهروا محبتهم بكثرة الخمر الذي احتسوه حتى يكرموا العيد العظيم. فدخل الخمر والشهوة وهربت الكرامة والفضيلة من محجله، فرقصت سالومي ولعبت دورًا خطيرًا في عيد ميلاد هيرودس، فعن طريق رقصها المثير قُطعت رأس يوحنا المعمدان، وفقد هيرودس مملكته. 
يخبرنا كيتو (Kitto) المؤرخ الشهير أنه في عصر هيرودس، كان الرقص عملة نادرة، ولم يسمع أحد عنه تقريبًا، ولذلك فبتنازل سالومي التي تطوعت لتكريم عيد ميلاد ذلك الحاكم باستعراض جمالها في قلعة ماكيروس (وهي قلعة عند المكور شرق البحر الميت) شعر هيرودس أن هذه لفتة تستحق اعلى مكافأة فطلب منها أن تطلب حتى ولو نصف المملكة، فلم يكن يهتم بفحص سلاح مقاتليه، لأن قلبه كان مسبيًا برقص ابنة هيروديا، وكأنها شنت حربا ضد الجبابرة وستأخذ اللؤلوة التي لا ثمن لها جراء الخمر الذي دخل إليه وطرد ذهنه..

وبمشورة هيروديا طلبت رأس يوحنا المعمدان هذا الذي وبخ الملك قديمًا، لئلا يأخذ هيروديا امرأة له.. هذا الذي بكلمته السامية وبسمو برارته وتنسكه وسيرته كان الملوك يخافونه بل وكان يوبخهم.. هذا الذي سمى الفريسيين والصدوقيين: أولاد الأفاعي، ولم يكن يحابي الرؤساء والسلاطين.. هذا الذي كان قد هدد بني الإثم بالنار مثل إيليا وأرعبهم بقصاص اللهيب وحثهم ليعطوا ثمار التوبة..

طلبت ابنة هيروديا رأس المعمدان على طبق، فاغتم قلب الملك، وأمر بقتل المعمدان، مع أنه لا يوجد ناموس يحكم بالموت على البار، بموجب الناموس، لو لم يقتل أحد. وسريعًا دخل الرأس في طبق ليبين أمام المدعوين بأن الملك لم يكذب في كلمته بما وعد، ولم يخف أولئك الدنسون وهم ينظرون إلى رأس رجل عفيف، بل ولم يرتجفوا ولم تسقط الكؤوس من أيديهم بعد أن شاهدوا دم ذلك الشهيد مسكوبًا، وأيضًا لم يرتعب قلب الملك الذي رأى فم القديس مسدودًا بدمه الطاهر فحتمًا عندما رأه تذكر توبيخه له.. وعلى الجهة الأخرى كانت هيروديا، وهي تهمس في أذن ابنتها سالومي (كما ذكرها يوسيفوس المؤرخ) قائلة: انظري إليه وافرحي لأن هذا الفم كان كل يوم ينفث فينا بالنار، ويخيفنا لئلا ندخل إلى بيت الملك. وبهذا صار ليل هيروديا المخيف المليء بالأحزان هو من يحبس نهار يوحنا حتى يسكت..

كان المنظر مرعبا فالبتول مقتول.. الكاهن مذبوح بل الزيتون الممجد الذي نبت على جدول المعمودية قطعوا رأسه الملاعين لئلا يدهن زيته الرأس.. العنقود الحلو عصروه في طبق الملك.. إنه كاروز الحق، والبتول البهي، سامع الآب، وماسك الأبن، ورائى الروح، والمسجون بالغيرة والمقتول بالحسد.. هذا الذي صار وسيطًا للعهدين..

أتعجب كيف صار أعظم مواليد النساء: إنه أعظم من هابيل وقربانه وأعظم من نوح الذي غلب الموج ببرارته وأعظم من إبراهيم الذي سحب السكين على حبيبه، ومن إسحق المربوط ليصير ذبيحه، ومن يعقوب الذي صارع وغلب، ومن يوسف الذي تغلب على الشهوة وصار أنشودة نترنم بها.. إنه أعظم من إيليا الذي ربط السماء ومنع المطر وأحيا ميتًا وأنزل النار، ووبخ الملوك وفضح الأصنام.. إنه أعظم من اليشع الذي شق النهر، وطهر البرص، بل وأعظم أيضًا من يونان الذي صار آية للابن في كل دربه وصور دفنه..

إنه أعظم من أشعياء وأرمياء اللذين صارا مسكنًا للنبوة وعارفي الأسرار.. أعظم من حزقيال الرجل الذي شاهد مركبة الكاروبيم وأعظم من الثلاث فتية في أتون النار.. مختارًا كداود وجماله أبرع من يوشيا.. وأعظم من الرسل في خدمتهم، بل أعظم مواليد النساء هذا الذي نذكره بعد القديسة الطاهرة مريم في ليتورجيات الكنيسة..

لم يشق القديس البحر قبلًا، أو لم يوقف الشمس مثل الذين سبقوه، ولم يصنع القوات ليضج العالم بجبروته، بل سلك بخفيه وهدوءًا، وكان هدفه أن يشفي أمراض النفس، ويوشح النفوس نورًا سماويًا فاستحق أن يكون المعمدان العظيم..
الجريدة الرسمية