تأشيرة في مواجهة تأشيرة!
"نظام البشير يفرض تأشيرة دخول على المصريين"، هو القرار الأغرب في تاريخ المنطقة، ليس لأن السودان ليس من حقه ذلك، وليس انتقاصا من سيادة السودان على أراضيه، ولكن هو قرار غريب لأن لدينا عددا من القوانين لا يزال يتحدث عن وادى النيل باعتباره دولة واحدة ووفق النهج الشعبى، بعيدا عن حكام يتخاصمون في اليوم الواحد خمس مرات بعدد الصلوات، لا يزال يرى أن السودان مصري، وأن مصر سودانية، وأن الوادى الرحب أوسع من قرارات السلطات وأن القرار شاذ إلى حد العجب.
ليست المشكلة فيما اتخذه الرئيس السودانى ونظامه هناك، وإنما المشكلة الحقيقية أن ذلك قد يدعو محافظ القاهرة مثلا، إلى فرض تأشيرات لدخول "المصريين" للقاهرة اتباعا لنهج الأخ عمر البشير ليعتبر نفسه دولة داخل الدولة، كما فعل البشير.. ففي الوقت الذي كانت فيه الصراعات بين نظامي القاهرة والخرطوم متأججة إلى حد التشفى، ووصلت إلى محاولات النيل من البلدين كان الأشقاء السودانيون ينعمون بحياة هادئة في شوارع وحوارى القاهرة.
وفي الوقت الذي كان صوت الخلاف بين الرئيسين مبارك وعمر البشير، قد وصل إلى حد التطاول، كان المصريون والسودانيون يردون على هذه التخاريف بحياة هادئة وتعاون صادق وامتزاج لم تستطع كل آلات الحرب الدائرة بين رجلين اعتليا السلطة هنا وهناك، أن تحول بينهما.. كانت القاهرة ولا تزال وستستمر واحة دافئة لأبنائها من السودانيين وستظل الخرطوم غير رافضة لأبنائها من المصريين.
إن العلاقات الشعبية لا تحكمها تأشيرة يستيقظ حاكم من نومه ليفرضها، ولا يمكن للبشير ولا لغيره أن يغير من حقائق التاريخ والامتزاج الإنسانى عبر قرون أقدم منه ومن نظامه ولا يمكن لحكام القاهرة أن يحولوا دون التماهى المصرى السودانى مهما اختلفت الرؤى وتباينت المصالح، فمصر والسودان حالة فريدة في البعد عن الرياء السياسي أو الشقاق السلطوى المزعوم أو الرؤية المحدودة والناقصة لدى طرف من الأطراف.
يصل الخلاف إلى الشعوب في الحالة المصرية السعودية، وأيضا يصل إلى نفس المستوى في الحالة المصرية الأمريكية.. في كل العلاقات العربية المتخلفة تصل شظايا الخلافات إلى الشعوب إلا السودان ومصر، فهى الحالة العصية التي لم نر ولن نرى فيها خلافا شعبيا؛ لأننا أمام شعب واحد ومصير واحد وحالة امتزاج تاريخية أكبر من المراهقة السياسية التي يمارسها طرف من الأطراف.
تستطيع أن تتجول في العتبة.. في المهندسين.. في الدقى.. تستطيع أن تتجول في المطاعم والمتاجر.. تستطيع أن تزور المستشفيات والمدارس والجامعات لترى بنفسك كيف يعيش هذا الشعب العبقرى واحدة من حالات التلاقى الإنسانى، بعيدا عن تأشيرة الباشمهندس عمر البشير، ويكفى أن نذكر الجميع ومن بينهم الرئيس عمر البشير نفسه، كيف كان يعيش بيننا أكثر من ثلاثة ملايين سودانى عندما كانت القاهرة والخرطوم على مسافات أبعد من القاهرة وتل أبيب.
إن المتابع غير العربى للشأن العربى يستطيع أن يرى وبوضوح، كيف كان يعيش الإنسان الحجرى عندما يطالع خلافات الحكام العرب.. يستطيع أن يحكم وبإنصاف علينا بأننا أمة أصابها خرف السلطة ومرض العظمة، رغم أننا لا نزال نسبح في "قيعان" التخلف والجهل والجمود.. يستطيع أن يصفنا دون ظلم بأن ربط جذور الإنسان بالقرد فيه ظلم لعالم القرود، ويستطيع وبضمير مستريح أن يقول "هنا أمة لابد وأن تتكالب عليها الأمم لأنهم كغثاء السيل"!!