العلم الرباني
قد يجهل البعض وفي الحقيقة الكثير من الناس أن هناك من العلوم علمًا يسمى بالعلم الرباني أو علم المكاشفات وهو علم من لدن الحق سبحانه وتعالى، يخص به من يشاء ممن يصطفي من عباده، وهذا العلم قد أشار الله تعالى إليه في تعريف سيدنا موسى عليه السلام بالعبد الصالح سيدنا "إيليا ابن ملكان" المعروف بـ"الخضر" عليه السلام حيث قال سبحانه في وصفه وتعريفه لسيدنا موسى: "عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"..
وهذا العلم ليس للعامة فيه نصيف فهو قاصر على أهل الاجتباء والاصطفاء الإلهي، يقول تعالى: "وربك يخلق ما يشاء"، وهناك من أهل الاجتباء من منحه الله علومًا ومعارف وحقائق وأسرارًا على أثر تجليه تعالى على قلوبهم بأنوار أسمائه تعالى وصفاته، وإلى ذلك أشار سبحانه وتعالى بقوله على لسان سيدنا يعقوب وغيره من السادة الأنبياء: "إني لأعلم من الله ما لا تعلمون"..
هذا وفضل الله تعالى ممتد دائم لا ينقطع ولا يتوقف فهو العاطي الوهاب، وهو تعالى القائل: "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء"، أي أهل الدنيا وأهل الآخرة، من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محذورا، ومعلوم أن لله تعالى في كل زمان اجتباءات واصطفاءات فالله تعالى دائم التجلي، ولا تتوقف تجلياته وعطاءاته لمحة أو أدنى من ذلك بأنوار أسمائه وصفاته فأهل الله موجودون في كل عصر إلى أن تقوم الساعة...
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا وأهل الاجتباء والاصطفاء الإلهي هم الذين منحهم الله عز وجل الفهم الرباني، ذلك الفهم الذي أشار إليه جل علاه في القضية التي عرضت على سيدنا داود عليه السلام قصة المتخاصمان اللذان أتيا إليه ليحكم بينهما فلم يصب سيدنا داود وأصاب ولده سيدنا سليمان، وفي ذلك يقول سبحانه: "ففهمناها سليمان"، هذا والفهم الرباني هو فهم مختلف تمامًا عن الفهم العقلاني، أي عن الفهم المركب في رءوس العباد والذي يعمل بأدوات وهو مركب فيما يسمى بالعقل، وهو فهم معقول ومقيد ولا يتجاوز المدركات والمعقولات، وليس له ضرب في الأمور الغيبية.
هذا والفهم الرباني هو الفهم بالله الممنوح من الله عن الله عز وجل وهو فهم بلا أدوات، هذا وهناك من يسمع ويبصر بالله لا بالأدوات المركبة فيه من الله، يقول تعالى: "أسمع به وأبصر"، وقد يقول البعض إن هذا الفضل والاختصاص قاصر على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فأقول له هناك قاعدة معرفية تقول الجائز في حق الأنبياء جائز في حق تبعيته فيما خص به من الفضل والعطاء الإلهي، وما من مؤمن صالح تقي إلا وله نصيب مما خص به صلى الله عليه وسلم من الفضل والعطاء الإلهي..
هذا ومعلوم ومؤكد أن العبد حينما يستقيم ويلتزم بإقامة الفرائض والحدود التي شرعها الله تعالى، وكلف بها عباده المؤمنين ثم يجتهد في أعمال النوافل في العبادات يرتقي العبد من درجة المحب إلى درجة المحبوب، ومن درجة الطالب إلى درجة المطلوب، عند ذلك يتجلى الله تعالى عليه ويجعله عبدًا ربانيًا متخلقًا بأخلاق الله موصوفًا بأوصافه عز وجل، ويؤكد ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال: "من عادى لي وليا فقد أذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، وما زال يتقرب إلى عبدي بالنوافل حتى أحبه فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدماه التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لإعيذنه"..
هذا وعندما يمنح العبد من الله تعالى الفهم الرباني يقرأ ما بين السطور وتتجلى له المعاني المبطونة في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هناك من سوف ينكر ويكذب كلام أهل الله أهل الفهم الرباني، وليس ببعيد من أن ينكر بعض من الذين أوتوا حظًا من علم الظاهر من العلوم الشرعية فكم على مر التاريخ أنكر علماء الظاهر على أصحاب الفهم الرباني وعلم القلوب..
هذا وأحب أن ألفت نظر أعزائي القراء إلى أني من خلال مقالاتي عن الإنسان في القرآن، أخاطب القلوب قبل العقول وأقرأ بفضل الله ما بين السطور وأحاول أن أقدم الجديد فيما يتعلق بالإنسان، وما جاء عنه في القران بفهم جديد صحيح له سنده بالأدلة العقلية والنقلية وفي الختام هذه هى قراءاتي وهى غير مفروضة على أحد، وأني أقدمها إلى من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..