السيد ياسين.. رحيل الشاب التسعيني
جلس بين جمع من شباب فيتو، وفى صالوننا الثقافى.. بدأ الحوار بطرح ما كان يعن بأدمغة “العيال”.. استمع جيدا، وبدأ في إعادة طرح أسئلتهم من جديد، ليعلم الأولاد كيف يصيغون استفساراتهم بتحديد أدق، وتوصيف أفضل، وتعبيرات أوضح.. جلسنا حوله جميعا ننصت إلى ما يقول، حيث إن كل ما يقول جدير بالفهم، والحفظ، والتذكر، والاستيعاب، والتمحيص.. لم يكن يقول كلاما عاديا، فنحن أمام واحد من أهم مفكرى عصرنا.. كنا أمام السيد ياسين أوسع صدر عرفته في حياتى.
انتهينا من الحوار، واصطحبته إلى مكتبي.. وكان ابنى الطالب بالجامعة قد جاءنى على غير موعد.. التقطه السيد ياسين، وبدأ يسأله عن أحلامه.. طموحاته.. هل يفكر في السفر خارجا؟ هل يرغب في العمل ببلاده؟ وكلما قال ابنى شيئا يندهش السيد ياسين، رغم أن ما يطرحه ابنى كنت دوما أراه سطحيا وساذجا على قدر قراءات أبناء الجيل الحالى.. خشيت أن يكون ابنى مملا، فحاولت إخراجه من الحوار، غير أن تشبث المفكر الكبير بإدارة دفة الحوار معه علمنى درسا مهما، منحنى إياه بعد أن تركنا ابنى إلى حيث حياته.
فاجأنى ابنى بعد أيام من هذا اللقاء بأن المفكر الكبير اتصل به وسأله عن أحواله، وأدار معه حوارا حول قضايا الشباب، وفيما يفكرون، وطلب منه أن يزوره في مكتبه بالأهرام.. صارا صديقين.. يحكى لى ابنى اهتمام مفكر في حجم "السيد ياسين" بالاستماع إليه، وتدوين الملاحظات حول ما يقول رغم سذاجته بالقياس لواحد من أهم مفكرى الاجتماع السياسي في العالم العربى، بل وفى العالم كله.
لا أنسى عندما هاتفته، وأنا متردد هل يقبل أن يكون إضافة لنا في «فيتو»، ويصبح من كتابها؟.. طلب منى زيارته في الأهرام.. ذهبت في الموعد المحدد.. تناقشنا حول ما ستقدمه «فيتو» لاجتذاب قراء جدد.. تحدثت بفضفضة وكتبت ما ردده على مسامعى.. طلب منى في نهاية اللقاء أن يطلع على بعض بروفات العدد التجريبي، قبل أن يقرر الكتابة.. أخذت مجموعة من الصفحات المعبرة عن السياسة التحريرية لـ«فيتو» وزرته، اطلع عليها بهدوء، قرأها جميعا ثم قال: سأكون سعيدا بأن أصبح واحدا من كتاب فيتو.
كنت سعيدا بموافقته، وأبلغت رفاقى، وكم كانت سعادتهم بقراره الداعم لجيل جديد من الصحفيين، ولم يتوقف دعمه لنا طوال سنوات ست، كان يحرص خلالها على التنبيه علينا بما يرى من أفكار مهمة، حتى أصدر كتابه المدهش “فيتو على عصر الإخوان.. نقد العقل المغلق” وعندما استضفناه بصالون فيتو مرة أخرى عبر عن سعادته، مؤكدا أن مجموعة الكتاب الساخرين بفيتو دفعته إلى خوض الكتابة الساخرة، وهى مجموعة المقالات المنشورة له على صفحاتنا، والتي أصر على إصدارها في كتابه المهم.
لم أصدق نفسى عندما أبلغنى الزميل أحمد نصير بخبر رحيل المفكر التسعينى الذي عاش حياته شابا حتى اللحظة الأخيرة.. رحل عنا بعد أن ترك لطلابه ومحبيه ومريديه تراثا فكريا مهما، فرحمة الله عليه، وعزاء لنا وسلوان لأهله وطلابه وقرائه.