وزير الصحة ووقائع جريمة كبرى!
اعتذر الوزير إذن وتراجع لكن يبقى الجدل وتبقى المشكلة والسؤال: ما الذي أوصلنا لهذا الجدل ولهذه المشكلة؟ وما الذي أوقع الوزير في الأزمة كلها؟ نقول وباختصار أيضًا واستكمالًا لمقال الأمس، إن الوزير عاش طوال الأربعين عامًا الماضية في ظل أجواء كان من بين أركانها استهداف الزعيم عبد الناصر بكل الطرق، حتى لو كانت إطلاق الإخوان ضده بكل أكاذيبهم خصوصًا بعد اختلاف فلسفة الحكم في مصر وانحيازاته منذ الانفتاح الاقتصادي عام 1974، ومن هذا التاريخ نبدأ الحديث في صلب موضوعنا وسنحاول تبسيط الموضوع.
فبعد تأميم قناة السويس حاولت الدول الغربية الضغط على مصر وإحداث أزمات داخلية- كما هو الحال اليوم تمامًا- من خلال التأثير على سوق الأدوية في مصر.. فقرر عبد الناصر الدخول على الفور إلى مجال صناعة الأدوية حتى لا تبقى مصر تحت أي ضغوط.. ولكن ظهرت أزمة كبيرة وهى أسرار التصنيع أو ما يسمى اصطلاحًا للأدوية وغيرها بعملية "نقل التكنولوجيا" وهى التي حرموا منها دول العالم الثالث كلها لتبقى تابعة للغرب وسوقًا له.
إلا أن مصر بعمليات مكثفة تشكل أساطير في ذاتها تستحق أن تروى تفصيليُا وفي زمن قياسي استطاعت الحصول على تكنولوجيا وأسرار هذه الصناعة، وبدأت بالفعل في التصنيع الكبير وتم إنشاء المؤسسة المصرية العامة للأدوية، لتكون مسئولة عن توفير الدواء سواء بالإنتاج أو الاستيراد كشركة وحيدة محتكرة باسم الشعب المجال كله، ثم تم بعدها إنشاء شركات القاهرة والإسكندرية والنيل والعربية للأدوية بلغت 8 شركات كبرى، وتختص جميعها بإنتاج المستحضرات الدوائية ثم افتتحت شركة "النصر للكيماويات الدوائية" العملاقة عام 1964 وتخصصت كشركة لإنتاج الخامات الدوائية بمنطقة أبي زعبل بالقليوبية، وبعدها شركة الجمهورية لتجارة الأدوية والكيماويات والمستلزمات الطبية، والمصرية لتجارة الأدوية كشركات لتجارة الدواء.
وبعد ذلك كان الحدث المهم في إعلان تأسيس مركز الأبحاث والرقابة الدوائية، ونجحت مصر في صناعة الدواء ووفرت الدواء للسوق المحلي بنسبة تجاوزت الـ84 % وهيمنت على سوق الدواء في الدول العربية والأفريقية، وبالتوازي حدثت نهضة كبيرة في التعليم والصحة في البلاد، وفي دراسة مهمة أشرف عليها العام الماضي الكاتب الصحفي والباحث المعروف جمال غطاس رئيس تحرير "لغة العصر" السابق بالأهرام، وكانت عن أولويات الإنفاق عند رؤساء مصر السابقين، وعلى خلاف المتوقع جاء الإنفاق على التعليم في المرتبة الأولى في عهد عبد الناصر وليس كما صوروه أن الإنفاق الحربي كان في المرتبة الأولى!
نعود للتاريخ السابق الإشارة إليه وهو عام 74 إذ وبعد الانفتاح بأسابيع وافق الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء لشركة "سكويب" الأمريكية للأدوية بالدخول للسوق المصري!! بدلًا من استمرار حماية صناعتنا الوطنية خصوصًا الإستراتيجي منها!.. فكانت المنافسة لصالحها وبدأت شهية الغرب ومن تتفق مصالحه معهم من بعض رجال الأعمال في استبدال الشركات الوطنية بهم وهو ما وصلنا إليه اليوم كاملًا.. فلا صناعة وطنية للأدوية في مصر ولا نسد حاجتنا منها، حتى بالاستيراد لتنضم إلى صناعات أخرى دمرت بالكامل!!
للجريمة الكبرى السابقة تفاصيل كثيرة ومثيرة وخطيرة لكنها- كلها- محزنة ومؤسفة خسر الشعب المصري فيها صناعة مهمة وممتلكات غالية له، ويبقى المؤكد في الأمر أن وزير الصحة مثله مثل قطاعات كبيرة من شعبنا لا يعرفون شيئًا عن ذلك كله!
ملحوظة فاضحة: العدو الإسرائيلي بكيانه الصغير يصدر لأفريقيا بما يصل إلى 7 مليار دولار ونحن بـ200 مليون دولار! رغم أن أفريقيا كانت سوقنا بمفردنا كاملة خالصة وبلا منافس!!