الأمن الوطني وملفات ساخنة جدا!
على الرغم من الاختلاف بين الجمهوريات والممالك حول مفهوم "المواطنة" فإنهما عادة ما يتفقان على مفهوم "الوطنية".. فإذا كانت "الوطنية" في مفهومها "المُعلَّن" تعني إيثار المواطن لمصلحة الوطن على حساب مصالحه الشخصية، وأنها قد تمتد لأكثر من ذلك، حين يبدي المواطن استعداده للتضحية بعمره دفاعًا عن وطنه.. فإن لـلوطنية" مفهومها "الخفي" الذي يقضي بتغليب مصلحة الحاكم الشخصية ولو كانت على حساب مصلحة الوطن!
ويتضح ذلك بشكل جلي حينما تختص جهة بعينها بمنح صكوك "الوطنية" للمواطنين، وفق معايير منحازة، ومغايرة تمامًا لمنطق التفكير الوطني.. فعادة ما تختص الجهات الأمنية في الدول المتقدمة بحماية مصلحة الوطن العليا التي أقرها البرلمان الشعبي.. أما في البلاد المتخلفة فعادة ما تحدد الجهات الأمنية مصلحة الوطن العليا، ثم تُلزِم البرلمان بالعمل في إطارها! فإذا كان في الممالك ليس كل الرعايا مواطنين، فليس في الجمهوريات كل المواطنين رعايا.. وفي كل منهما ليس كل المواطنين "وطنيين"!
وعمومًا فقد كان لزامًا علي أن أبدأ بهذه المقدمة قبل أن أكتب عن حواري مع أحد رجال الأمن بالجامعة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي.. حين كنت معيدًا بجامعة القاهرة.. حيث دفعني شغفي القديم بالأدب إلى تدشين "منتدى ثقافي" بالكلية التي كنت أعمل بها.. وكانت طبيعة المنتدى تسمح للطلاب بأن يتباروا بإبداعاتهم الأدبية، ويتبادلوا وجهات النظر ويتلاقحوا الأفكار بحرية تامة، ولما كنت دائمًا أميل إلى تشجيع الأعمال الأدبية التي تناقش قضايا اجتماعية حقيقية؛ فقد كان من الصعب على الطلاب في تلك المرحلة التفرقة بين القضايا السياسية والاجتماعية؛ نظرًا للتماس الشديد بينهما، ومن ثم فعادة ما كانت توجهاتهم السياسية تطفوا على السطح، في معظم إبداعاتهم، وداخل أروقة المنتدى!
وذات يوم دعاني قائد الحرس الجامعي، وطلب مني استبعاد عدد من الطلاب من المنتدى، وعدم السماح لهم بالمشاركة بأعمالهم الإبداعية أو الحوار؛ بدعوى أن لهم ملفات في "أمن الدولة" نظرًا لنقدهم المستمر لنظام الحكم آنذاك!
وعلى الفور سألت قائد الحرس حينها: هل تعلم أن أعمار هؤلاء الطلاب لا تتجاوز العشرين عامًا! هل تعلم أن أفكار الإنسان وتوجهاته مرهونة بجملة الأفكار والمعلومات التي تلقاها، والطريقة التي أدركها بها؟ هل تعلم أن توجهاته ليست ثابتة ولا تتسم بالدوام، خاصة إذا زرعت في الصبا؟! وأن هذه التوجهات تتغير كل يوم، وحسب تجارب الإنسان مع الموقف.! وأن سلوك الإنسان مرهون بجملة من القناعات، يمكن استبدالها بقناعات أخرى؟! هل تعلم يا عزيزي أن ما ينفق على إصلاح جرائم التطرف، وعلى المسجونين، أضعاف ما يُنفق على برامج تنمية الوعي الإنساني!
هل تعلم يا سيدي أن وجود ملفات أمنية لهولاء الطلاب تجعلهم موصومين بالتطرف، وتَصِفُهُم بأنهم غير "وطنيين". وقد يترتب على ذلك مطاردتهم "أمنيًا" بعد التخرج، وربما حرمانهم من فرصة عمل داخل أجهزة الدولة!
وقد يتحمل أبناؤهم في المستقبل نتائج توجهاتهم.. إننا يا صديقي القائد إذا أقصينا هؤلاء من الحوار؛ فسوف لا نُقصِي بعضًا من الطلاب، وإنما قد نقصي جيلًا، وربما أجيالًا كاملة من الانتماء للوطن! فعادة ما تمنع تلك الملفات أصحابها من الطموح الإداري؛ إذ إنها تقف دائمًا حائلًا بين المواطن وحِلمُه!
وهنا سكت ذلك الضابط المحترم، ثم قال: يا دكتور إذا غيروا توجهاتهم فسوف تتغير التقارير.. ولا يجب على الأمن أن يقف متفرجًا على هذه التوجهات المناوئة أو حتى الناقدة لسياسة الدولة، فقلت له: أولًا، القانون في بلادنا لا يعرف الرحمة.. ثانيًا، ذاكرة الأمن لا تعرف النسيان وملفاتها ساخنة، وقد تشعلها "وِشيَّة"!
دعني يا صديقي أتصفح ذهنية طلابي واكشف ما خبأ فيها من فساد.. ودع طلابي يعبرون عن آرائهم دون خوف، وبأي لغة ما داموا في حظيرتنا وأمام أعيننا. دعنا نحاورهم فيما يرون بكل حرية ووضوح. وأعدك بأننا كأساتذة قادرون على إعادتهم إلى الصف الوطني، بل ومنعهم من الشرود بعيدًا عن السرب..
ضحك الضابط المحترم وقال: من الآن أنا ساعدك الأيمن، ولن أكتب تقريرا واحدًا عن طالب، إلا إذا تيقنت أنه صاحب عقلية تستعصي على الحوار.. فتمنيت حينها لو كانت الداخلية كلها ذلك الضابط المحترم! وبعد انقضاء عام دراسي واحد، تزواجت فيه قوة السلطة مع الحوار، وتراجع فيه عدد كبير من الطلاب عن توجهاتهم الدينية المتشددة وأفكارهم اليسارية المتطرفة.. تم ترقية الضابط ونقله للعمل في مكان آخر.. فكانت نهاية التجربة!
وبعد حصولي على درجة الدكتوراه دعتني الجامعة إلى المشاركة في بعض الأنشطة الطلابية المتعلقة بتثقيف الطلاب، فاخترت موضوعًا عنوانه "إشكالية الوعي الإنساني في ظل العولمة" وفي تلك اللقاءات وكنت أحدث الطلاب عن رواد الوعي الإنساني في أواخر القرن الـ19 وبدايات الـ20، كجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومحمد نديم وفتحي زغلول والأخوين علي ومصطفى أمين وهدى شعراوي وعبد الرحمن الكوكبي والشيخ مصطفى عبد الرازق وعلي مبارك.
ودشنت حوارًا مفتوحًا وآمنًا مع الطلاب، وأخذ الطلاب يناقشون وبمنتهى الشجاعة توجهاتهم، دون خوف منهم أو قلق، بل ويميطون اللثام عن توجهاتهم الأيديولوجية، خاصة الطلاب الذين كانوا ينتمون إلى الجماعات الدينية المتشددة، وبتكرار الحوار تراجع الطلاب عن توجهاتهم، وأعلنوا خروجهم من تلك التنظيمات!
وذات يوم فوجئت باتصال من صديقي الذي كان يعمل حينها مديرًا لمكتب رئيس الجامعة، وبعد أن شكرني على نجاح المبادرة، نصحني بعدم الاستمرار فيها، معللًا نصيحته؛ بأن عزوف الطلاب عن المشاركة في أنشطة الجماعات الدينية أصبح مصدر قلق لقادتهم.. وأن الاستمرار في هذه المبادرة ربما يشكل خطرًا على حياتي!