وهكذا ثأرت مصر لـ«عبد المنعم رياض».. صفحات أسطورية!
استدعي الزعيم جمال عبد الناصر وزير الحربية الفريق أول محمد فوزي على عجل.. ذهب القائد العسكري الصارم- كما أسميناه في مقال سابق منذ أسابيع- ومعه عدد من القادة.. بعد الترحيب كان القرار واضحا ومباشرا ومحددا وفوريا ومختصرا.. الثأر العاجل لاستشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان.. ثأرا يشفي الغليل وبأي ثمن.. تسلم الفريق فوزي القرار-الأمر وغادر إلى مقر القيادة.. وهناك كانت الاجتماعات العاجلة لتنفيذ قرار القائد الأعلي..
الأجهزة المختصة توفر المعلومات عن زيارة لثلاثة جنرالات كبار سيزورون الموقع الذي أطلقت منه القذائف واستشهد البطل بسببها.. ولكن الموقع محصن جدا وصعب الوصول إليه.. القيادة تقرر إسناد المهمة للفرقة 39 قتال.. إنها فرقة الصاعقة الشهيرة التي أذاقت المرار والذل للعدو الإسرائيلي طوال حرب الاستنزاف.. إنها فرقة البطل إبراهيم الرفاعي!
يصرخ أحدهم ويقول في قلب القيادة: "أبو رابية" ! وعلي الفور فهم الحضور أن المقصود هو النقيب محمد صالح أبو رابية أشهر قناص بالقوات المسلحة، وقد قام بعمليات قنص عديدة وناجحة في الاستنزاف لكن.. تبقي معضلة كبيرة وهي أن الجنرالات الثلاثة سيصلون إلى الموقع بثلاث سيارات مدرعة! فكيف السبيل إليهم بقناص واحد؟ كما أنهم سيختفون بعد الطلقة الأولى؟! كما أن إطلاق القذائف لن يكون حلا لاصطياد الثلاثة معا أيضا!
اجتماعات مطولة طلب أبو رابية أن يلتقي زملاؤه في العملية، وطلب من القيادة أن توفر له الحماية، لحين إنجاز المهمة لإصراره على النجاح فيها رغم خطورتها، ورغم نسبة نجاحها التي تكاد تكون مستحيلة!
تم إسناد مهمة تأمين النقيب أبو رابية لبطل مصري آخر أطال الله عمره، هو عبد الجواد سويلم، وسويلم هو الشهيد الحي كما أسماه عبد الناصر، والذي فقد ساقيه وذراعه وعينه في عمليات الاستنزاف، وأصر على العودة والعمل بأطرافه الصناعية، وأعاده عبد الناصر بالفعل وعبر في 73! وكان معه المقاتل محمود الجلاد، وعدد من الصاعقة والبحرية بلغ عددهم 68 مقاتلا من الضباط وضباط الصف والجنود، وهو عدد كبير جدا في عمليات سرية كان من المعتاد ألا يزيد عدد من يقومون بها على 7 أفراد!
في التوقيت المحدد اتخذت القوة المكلفة أماكنها السرية والتي وصلت اليها، واستقرت دون أن يشعر بها أحد.. القدر وحده الذي جعل معلومات أجهزتنا دقيقة للغاية، ومن خلال النظارات المعظمة بدت مواكب الجنرالات الثلاثة، وبدأ أبو رابية يلتقط أنفاسه العميقة ويذكر اسم الله العزيز الحكيم، وفي اللحظة الأنسب لتوقف السيارات الثلاث يطلق القناص الأسطوري طلقته الأولى فيخر الجنرال الأول صريعا، وقبل أن يعي الإسرائيليون ما يجري كان أبو رابية يصطاد الثاني، وقبل أن يفهم المجرمون الصهاينة أن ما جري ليست إغماءات وإنما رصاص.. كان أبو رابية يصطاد الثالث في عملية نادرة يستحيل أن تتكرر.. تمت كاملة في ثوان معدودة!
كان الهدف الأول من العملية وفق التعليمات هو القيادات الثلاثة وقد تحقق، ولذلك تقرر تحقيق الهدف الثاني وهو الموقع كله.. وهنا.. وفي اللحظة الأنسب أيضا تنطلق الصواريخ والمدافع المصرية والمفخخات التي زرعها الأبطال بمحيط الموقع، ومن دون أن يشعر بهم أحد أيضا، ويتحول الموقع الي كتلة من اللهب، ويلقي 44 صهيونيا مصرعهم، ويذهبون الي جهنم، وهذا عدد كبير جدا بالنسبة للإسرائيليين!
استشهد البطل عبد المنعم رياض في مثل هذا اليوم 9 مارس 1969 وبسببه تقرر أن يكون اليوم هو يوم الشهيد، والعملية السابقة تمت في 19 أبريل عام 69 أي في ذكري الأربعين لاستشهاد البطل، وقد أطلقنا عليها عملية "لسان التمساح" بينما أطلق عليها المجرم موشي ديان وزير دفاع العدو عملية "الأشباح" ورغم العدد الكبير المشارك فيها إلا أن النتيجة إصابة اثنين فقط منه، ويستحق بطلاها عبد الجواد سويلم ومعه محمود الجلاد وكلاهما ولله الحمد على قيد الحياة أطال الله عمريهما التكريم بكل الوسائل في 19 أبريل القادم لتعرف الأجيال الجديدة ممن لم يقل لهم إعلام ولا تعليم وطنهم طوال الأربعين عاما الماضية شيئا عن بطولات آبائهم وان في تاريخهم صفحات ناصعة ومجيدة!
اليوم يوم الشهيد.. وهو يوم الزهو والفخر وليس يوم للبكاء.. رحم الله عبد المنعم رياض وأبو رابية، وكل أبطال العملية، وكل شهداء مصر والعروبة!