رئيس التحرير
عصام كامل

المصريين الأحرار.. أزمة نظام


كانت الأمواج البشرية الهادرة تحاصر نظام مبارك في الشوارع والميادين، عقلاء الأمة يحاولون فتح منفذ هواء لبقاء النظام، والوعد بتغييرات مهمة تنقل مصر عبر التطور الطبيعى لنظام شاخ في مواقعه، فهداهم تفكيرهم إلى الدعوة إلى حوار وطنى تتجمع فيه قوى المعارضة للوصول إلى صيغة مرضية لكافة الأطراف، ننتقل بها من خانة إسقاط النظام إلى محاولة تغييره عبر نفس المؤسسات.


جاء صوت المتصل بى ليخبرنى باعتبارى رئيسا لتحرير صحيفة الأحرار التي كانت تصدر عن حزب الأحرار، أحد أقدم ثلاثة أحزاب في التجربة التعددية الثانية، دعانى المتصل إلى اجتماع مهم مع اللواء عمر سليمان، مع زملائنا رؤساء تحرير صحف المعارضة كواحدة من حلقات الحوار المزمع عقده بعد ذلك مع قادة الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى.

واجتمعنا في اليوم التالى باللواء عمر سليمان (عليه رحمة الله)، وتحدثنا في أمور كثيرة، وكان صدر الرجل رحبا متقبلا كل ما قيل من نقد حول انسداد الأفق السياسي، وما أدى إليه من حالة فوران جماهيرى سيدفع الوطن كله ثمنها، ولازلت أتذكر ما قلته في هذه الجلسة، حيث أردت أن أكون صادقا إلى أقصى درجة عندما قلت له: سيادتك تجلس مع الناس الخطأ، فكلنا مجتمعون لا نستطيع أن نؤثر في عشرة من هؤلاء الذين يتصدرون المشهد في الميادين، خاصة وأن السلطة قلمت أظافر الأحزاب بالتدخلات الأمنية، وأدارت الحياة الحزبية من لاظوغلى وهمًا منها أن السيطرة على الأحزاب وتفكيكها وإضعافها في صالح الحزب الواحد وهو الحزب الوطني، الذي لم يستطع أن يواجه الأزمة منفردا، فلجأ إلى كيانات هشة وضعيفة، وكان هو سبب هشاشتها وضعفها وقلة حيلتها.

أقول ذلك بمناسبة ما حدث مؤخرا، داخل حزب المصريين الأحرار، أحد آمال مصر والمصريين في تنامى حركة ليبرالية، تعتمد عليها البلاد في التغيير، مع كوكبة أخرى من أحزاب ولدت من رحم ثورة ٢٥ يناير، فالذي حدث لم يكن نقاشا حيويا أو خلافا فكريا بين مجموعات متباينة في رؤيتها حول مستقبل البلاد، إذ إن ذلك لو حدث فإنه عامل قوة للحزب وليس منطقة ضعف.. الذي حدث ببساطة شديدة هو استدعاء مشهد قديم وبالٍ من مشاهد كانت صورا كربونية لتدخلات أجهزة تتصور وهمًا أن ضرب الكيانات الكبرى يصب في مصلحة النظام.

على أن أول انقلاب في أحزاب التجربة التعددية الثانية، التي أعلنها وصنعها الرئيس السادات كان ضد حزب السلطة، نعم كان ضد حزب مصر الذي كان متغولا وصاحب نفوذ، فقرر الرئيس السادات إنشاء الحزب الوطنى الديمقراطى والمثير أن معظم قادة حزب مصر انتقلوا سريعا إلى الحزب الجديد في موجة أطلق عليها الراحل العظيم مصطفى أمين «المهرولون»، حيث وصف الهاربين من حزب مصر بالمهرولين، وهو المقال الذي أثار أزمة حينها.

توالت الانقلابات في أحزاب التجربة التعددية الثانية بمنطق واحد، وهو أن المنقلبين يرون في أنفسهم أنهم حراس الوطن، وأن غيرهم يلعب ضد مصالح الدولة.. كانت هذه هي «التيمة» الأساسية في كل انقلاب حدث، أو اختراق طال واحدا من الأحزاب..

بعيدا عن التفاصيل التي سنتناولها في سلسلة حلقات تصدر على صفحات فيتو قريبا، كانت النتيجة النهائية هي ضعف الأحزاب، وإدارتها من مبنى أمن الدولة بلاظوغلى، لدرجة أن نهايات عصر مبارك كانت إدارة كل حزب موكلة إلى ضابط صغير، ربما لم يطالع كتاب مبادئ علم السياسة، غير أنه أصبح بحكم منطق الأيام الأخيرة أقوى من أي قيادة حزبية.

لذلك لم ينجح الحوار الوطنى الذي دعا إليه اللواء عمر سليمان، لأنه باختصار اجتمع مع كيانات سياسية مهترئة، وغير قادرة على التأثير في الحشود الشعبية التي احتلت الميادين، واكتشف ساعتها النظام أنه لعب ضد نفسه، وأنه ربى كيانا متوحشا يبتنى أجندته السياسية من إطار أممى، لا علاقة له بالوطن.. هكذا اكتشف أن إضعافه للأحزاب كان تقوية للإخوان.. فشل الحوار وفشلت معه فكرة تداول السلطة بسهولة ويسر.

ويخطئ من يتصور أن أزمة حزب المصريين الأحرار هي أزمة كيان سياسي ولد من رحم ثورة مهمة في تاريخ البلاد.. أزمة المصريين الأحرار هي أزمة سيادة الفكر القديم الذي يبنى قوته على إضعاف الكيانات السياسية الشرعية لصالح كيانات أخرى غير شرعية، لم نر منها إلا الخراب والدمار والقتل والتشريد، وما يحدث في سيناء ليس إلا نتيجة طبيعية لغياب مبدأ التداول السلمى للسلطة، وخلق مناخا صحيًا لتيارات ظلامية لا تزال تعبث بأمن الوطن، وهى الوحيدة القادرة على التنامى في عتمة لا تعيش فيها إلا خفافيش الظلام.

والمثير أن نجيب ساويرس مؤسس حزب المصريين الأحرار، كان قد فطن إلى آفة أحزاب التجربة التعددية الثانية، واعتماد بنائها على فكرة الزعيم، فاستمد حزب التجمع قدراته من شخصية خالد محيى الدين، واعتمد حزب العمل على شخصية إبراهيم شكرى، واستأسد حزب الوفد بكاريزما الباشا فؤاد سراج الدين، واعتمد حزب الأحرار على زعامة مصطفى كامل مراد.. وهكذا، كانت زعامة الرئيس هي الأساس الذي انتهى مع غيابهم بالموت حينا وبالانقلابات أحايين أخرى.

فطن ساويرس إلى هذه الحقيقة، فرفض أن ترتبط الفكرة بشخصه، فلم يصبح رئيسا للحزب، وأراد أن تصبح الفكرة هي الأساس، ومنح الحزب دفعة معنوية، وشارك العديد من الشباب الطامحين في خدمة بلادهم، من خلال حزب ولد ليكون كبيرا، غير أن السفينة لم تسر وفق بوصلة الفكرة، وأراد لها البعض أن تموت تحت وطأة السيناريو القديم.. عدد من أعضاء الحزب يصفون آخرين بأنهم يلعبون ضد مصالح البلاد.. نفس المصطلحات والألفاظ والسيناريوهات، وكأن الزمان يعود بنا إلى حيث كان الانسداد السياسي عنوانا عريضا، عرض مصالح الوطن للخطر في لحظة تاريخية ليست بعيدة عنا.

إذن القضية هي قضية إرادة النظام القائم.. هل يرغب في تداول سلمى وسلس للسلطة؟ هل يرى أن التعدد كفيل بحماية البلاد من خطر الفراغ؟ هل يؤمن بالتعددية من أساسه؟ هل يرى أن التنافس الحزبى واحد من وسائل التغيير الهادئ؟ هل يرغب حقيقة في التخلص من التيارات غير الشرعية أم أنه يستدعيها بالانقلاب على التيارات الشرعية وإضعافها باللعب فيها ؟!!!
الجريدة الرسمية