هكذا خلده التاريخ بعد 30 عاما في السلطة!
كان البلد وبصدق مستنقعًا كبيرًا للقمامة والبعوض وللسلوكيات المتخلفة.. فنسبة الأمية مرتفعة ومستوى التعليم متدنٍ وكل شيء يحتاج إلى بنائه من جديد!
لكنه ومع حزبه قرر أن يضع خططًا للنهوض بالدولة وإعادة بنائها من جديد ولأن حزبه هو المهيمن على العمل السياسي في البلاد لذلك هيمن على المجلس التشريعي، وبالتالي الدستور والقوانين فقرر الانحياز لفكرة إقرار درجات مرتفعة من العدل الاجتماعي بضمانات كبيرة تمنح استقرارا للمواطن بعد أن أدرك أن الإنسان هو كل شيء حتى لو كان ذلك على حساب مساحة الحقوق السياسية!
انطلق العمل بالتخطيط -بالتخطيط- في كل الاتجاهات.. منح التعليم الأهمية القصوى من رعاية الدولة ومن أموالها وبالتوزاي أنشأ المصانع واهتم بالصناعة التحويلية في البداية ووفر فرص العمل لمواطنيه وبالتوازي أيضًا خطط لبنية أساسية قوية سمحت بتدفق الاستثمارات في عهده من كل اتجاه فكان بلده رقعة من العالم الثالث بشروط العالم الأول !
كان يرفض وصف العرب والفلسطينيين تحديدًا بالإرهاب وكان يعتبر "الوهابية" خطرا كبيرا ومصدرا للتطرف وخاض ضد الأفكار المتطرفة وأصحابها معركة مستنيرة حجمت هذا التيار ووقت بلاده شرورها فتحولت بالاستقرار إلى أكبر مراكز الأموال والاستثمار في العالم.. ومع ذلك لم يسلم بسبب موقفه من الحريات من انتقادات الصحافة الغربية لكنه لم يعبأ بها !
بعد 30 عامًا في السلطة تخلى طواعية عن الحكم وهو في قمة مجده وسلم السلطة لجيل جديد رغم أنه كان بصحة جيدة واكتفى بدور مستشار الحكومة وظل هكذا لسنوات طويلة حتى تقاعد طواعية أيضًا عن هذا الدور وصار رمزا للبلاد يحمل شعبه له كل التقدير والمحب حتى رحل قبل عامين !
إنه "لي كوان"، رئيس سنغافورة ومؤسسها، والتي أصبحت واحدة من أكثر الدول تقدمًا في العالم ومستوى الدخل بها الأكثر في العالم أيضًا وهناك لا يوجد سنغافوري واحد يذكره بسوء رغم أي تجاوزات طالت الديمقراطية، فالعبرة كانت لديهم بالخواتيم والحساب كان إجماليًا فدخل التاريخ وترك دولة حديثة وشعبا بلا أمية وسلوكا راقيا، فلا تجد ورقة واحدة في الشوارع وفعل ذلك كله ولا تتلقى بلاده معونات من أي دول وفي بلد يعاني من ارتفاع نسبة السكان قياسا على المساحة ويعاني من تعدد الأعراق واللغات وتسلمه محتلا ثم مر بظروف الانفصال عن ماليزيا وكل ما فعله إدراكه أن التخطيط نقطة الانطلاق لأي تقدم وأن بناء الإنسان هو خطوته الأولى وأن العدل الاجتماعي أساس بناء الإنسان حتى لو على حساب بعض الحقوق السياسية!
رحم الله "لي كوان" الذي رحل في مثل هذا الشهر قبل عامين بعد ربع قرن من تركه السلطة وقد اطمأن على بلده وشعبه !