حكاية محافظ تحدى قرار الرئيس
منذ عام ٢٠٠٥ تغير أكثر من ١٤ وزير تعليم عالٍ، و٨ محافظين للدقهلية، و٩ وزراء مالية، و٥ رؤساء جمهورية.. كان تعداد مصر ٧٤ مليون مواطن، وأصبح الآن أكثر من ٩١ مليونًا، ولا يزال الدكتور محمد ربيع رئيس مجلس أمناء جامعة الدلتا للعلوم والتكنولوجيا ينتقل بين دهاليز البيروقراطية، للانتهاء من إجراءات تمليك جامعته لأرض كانت في السابق ضمن ٨ آلاف فدان بمنطقة ١٥ مايو الصناعية بمدينة جمصة، وهي المنطقة الصناعية التي لم تمتد إليها المرافق منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
محمد ربيع وصل إلى هناك بعد عمليات شد وجذب ونقل من مكان إلى آخر.. ابتنى واحدة من الجامعات التي تعتمد بشهادة الجميع أفضل الأساليب العلمية، وتحوز معامل لا يضاهيها معامل في جامعة أخرى، وتستقبل آلاف الطلاب بعد أن حولت الخراب إلى عمار، وأضحت واحدة من الصروح العلمية المصرية المهمة.
بقية المنطقة لا تزال ترزح تحت نير الخراب والفراغ، لم تمتد إليها يد العمران حتى تاريخه.. الوحيد الذي وصل إلى هناك مجموعة من المصريين الذين اختاروا البناء والعمل والاستثمار في واحد من أهم المجالات التي تسعى مصر لتتبوأ مكانتها بعد سنوات من الضياع والإهمال.. فماذا وجد محمد ربيع ورفاقه من أجهزة العفن الإداري؟
تجاهلت كل الأجهزة الإدارية في الدولة حالة الجمود التي أصابت المنطقة الصناعية المزعومة، وانشغلت بمن قام بالبناء، فقررت مطاردته حتى آخر نفس، وكان محافظ الدقهلية المقال هو آخر المحاربين ضد الاستثمار الذي حول الصحراء إلى واحة خضراء، ومزرعة للعلم والدرس والبحث، وتفننت كل أجهزة الروتين في مطاردة مجموعة من المستثمرين الجادين لتتعامل معهم، وكأنهم أصحاب محل كشرى.
لجنة فض المنازعات الاستثمارية بمجلس الوزراء أنصفت الرجل مرتين، ومنحته موافقة على شراء الأرض بسعر ٣٠٦ جنيهات للمتر، إلا أن المحافظ المقال جاهر بالوقوف ضد قرار مجلس الوزراء، وعطل كل الإجراءات، رافضًا ما آلت إليه قرارات اللجنة الوزارية، معلنًا أنه لن يوافق على البيع بل زاد الطين بلة بأن قرر ودون وازع قانوني، أن يمنحهم الأرض بحق الانتفاع بمبالغ لا يمكن تصديقها، ولا يليق بدولة تبحث عن مستثمرين في قطاع التعليم لتحمل القطاع الخاص مسئولياته في منظومة التعليم أن تتعامل بها.
اثنا عشر عامًا، وهم يدورون بين دهاليز حكومة تكلست وتجمدت، وأضحت عبئًا ثقيلًا على البلاد.. تطلب منه الأوراق.. يقدمها.. يحصل على قرارات منصفة لا يطبقها ذات الموظف الذي يرى في نفسه وصيًا على حالة الجمود والتخلف التي نحياها.. لم ينظروا إلى ٧٩٥٠ فدانًا لا تزال ملجأً للكلاب والذئاب والفراغ، هي مساحة المنطقة الصناعية التي لم تصل إليها يد التعمير، وركزوا في مساحة ٥٠ فدانًا، أقيمت عليها واحدة من أفضل الجامعات الخاصة، وأمعنوا في التركيز فعطلوا لهم المراكب السائرة.
جامعة الدلتا للعلوم والتكنولوجيا تمتلك أكبر مستشفى أسنان في الشرق الأوسط، يقدم خدماته لأبناء الدلتا بالمجان، وتضم آلاف الطلاب الذين كانوا من المفترض أن يدرسوا في جامعات بالسادس من أكتوبر، والقاهرة، وهو ما يكلفهم ضعف ما يتحملونه الآن، وأصبحت جامعة الدلتا منارةً في محيطها، استقبلت آلاف العاملين، وأضحت منارةً علميةً يفخر بها أبناء الدلتا، غير أن كل ذلك لم يشفع لها، ولا لأصحابها عند المحافظ المقال.
وحكاية محافظ الدقهلية السابق مع أرض جامعة الدلتا واحدة من أغرب القصص الروتينية المعقدة، حيث خاطبته لجنة فض المنازعات الاستثمارية بمجلس الوزراء بأن يشرع في التنفيذ والبيع بسعر ٣٠٥ جنيهات للمتر فلم يمتثل.. خاطبته مرة أخرى ولم يمتثل.. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وصدر قرار من المجلس الأعلى للاستثمار برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي ولم يمتثل.. أُحيل الأمر للنيابة الإدارية رغم أنها ليست جهة اختصاص، فحققت في الأمر، وأمرته بالتنفيذ فلم يمتثل المحافظ.
ولجنة فض المنازعات بمجلس الوزراء، عندما قررت الموافقة على البيع بهذا السعر اهتدت بأقرب جامعة، وهي جامعة حورس التي اشترت أرضها بسعر ٣٠٥ جنيهات للمتر بالمرافق، فقررت البيع لجامعة الدلتا بذات السعر، وأشارت إلى أن أرض الدلتا بدون مرافق، ووافقت الجامعة غير أن المحافظ العنيد لم يمتثل.. علمًا بأن الدولة تتعامل مع المشروعات التعليمية بأنها غير هادفة للربح، لذلك حصلت الجامعة الألمانية على أرضها بسعر ١٣٤ جنيهًا للمتر، أما الجامعة البريطانية فقد حصلت عليها بسعر ٩٠ جنيهًا للمتر، وجامعة بدر بالقاهرة الجديدة حصلت عليها بسعر ٣٠١ جنيه للمتر بالمرافق.
في التاسعة من صباح يوم تعديل المحافظين، فوجئ المحافظ بخطاب من مجلس الوزراء يطالبه بتنفيذ قرار لجنة فض المنازعات، فاتصل بالسيد أمين عام مجلس الوزراء شاكيًا من ضغط المجلس عليه في موضوع أرض جامعة الدلتا، فكان رد الأمين العام: «لا تنزعج يا سيادة المحافظ، فقد أرحناك من كل هذا وسنرسل لك محافظًا جديدًا»!!